[عودة] الكلمة الثانية والتسعون: شكر النعم

الكلمة الثانية والتسعون: شكر النعم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن نعم الله علينا لا تعد، ولا تحصى، بل هي متتابعة، بتتابع الليل والنهار، قال تعالى: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
ومن أعظم هذه النعم نعمة الهداية لهذا الدين، قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى: ... {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والعبد دائمًا بين نعمة من الله تحتاج إلى شكر، وذنب يحتاج فيه إلى استغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، إلى آخر ما قال» (¬1).
ومن هذه النعم على سبيل المثال: نعمة السمع، والبصر والفؤاد، قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
ومنها نعمة الأمن في الأوطان، فإن حاجة الناس إلى الأمن أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فقد قدمه إبراهيم عليه السلام على الرزق، فقال الله عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، ولأن الناس لا يهنأون بطعام ولا شراب مع الخوف، قال تعالى ممتنًا على قريش بهذه النعمة: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]. وغير ذلك من النعم التي لا يستطاع حصرها، ولا الإحاطة ببعضها، وصدق الله إذ قال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
وهذه النعم بلا شك تحتاج إلى شكر، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
ومن الأسباب المعينة على شكر النعم:
أولاً: التأمل في نعم الله، واستحضارها في كل لحظة وحين، وعدم الغفلة عنها، فإن كثيرًا من الناس يتنعمون بشتى أنواع النعم من مآكل، ومشارب، ومراكب، ومساكن، ومع ذلك لا يستشعرون هذه النعم، لأنهم لم يفقدوها يومًا من الأيام، واعتادوا عليها، لذلك فإن الله يريد منا التأمل في هذه النعم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
ثانيًا: أن ينظر كل واحد منا إلى من هو أسفل منه، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أجْدَرُ أنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (¬2)، وفي رواية: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ» (¬3).
قال ابن جرير: «هَذَا حَدِيْثٌ جَامِعٌ لأَنْوَاعٍ مِنَ الخَيْرِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَن فُضِّلَ عَلَيْهِِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَت نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِن نِعْمَةِ اللهِ، وَحَرَصَ عَلَى الازْدِيَادِ لِيَلحَقَ بِذَلِكَ، أَو يُقَارِبَهُ. هَذَا هُوَ المَوْجُوْدُ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُوْرِ الدُّنْيَا إِلَى مَن هُوَ دُوْنَهُ فِيْهَا، ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ فِيْه الخَيْرَ» (¬4). اهـ.
ثالثًا: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر هذه النعم، هل قام بذلك أو قصر؟ قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَأُرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» (¬5)، وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِن اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ لِلعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَلَم أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ (¬6)، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسْ، وَتَرْبَعْ؟ فَيَقُوْلُ: بَلَى. فَيَقُوْلُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ؟ فَيَقُوْلُ: لاَ. فَيَقُوْلُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيْتَنِي» (¬7).
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُوْلُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَن عُمُرِهِ فِيْمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَن عِلمِهِ فِيْمَ فَعَلَ؟ وَمَالِهِ مِن أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيْمَ أَنْفَقَهُ؟» (¬8).
رابعًا: شكر هذه النعم بالقلب والقول والفعل، قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، وقال أيضًا: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]؛ فاستمرار هذه النعم بالشكر بأنواعه الثلاثة، وذهابها بالمعاصي والذنوب، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ، قَالَت عَائِشَةُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَتَصنَعُ هَذَا، وَقَد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!» (¬9).
قال الشاعر:
إذا كُنْتَ في نِعْمَة فَارْعَهَا ... فإن المعَاصِي تزيلُ النعم
وحُطْها بطاعَةِ ربِ العبادِ ... فَرَبُّ العبَادِ سَرِيعُ النقم

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) التحفة العراقية (1/ 79).
(¬2) صحيح البخاري برقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963) واللفظ له.
(¬3) صحيح البخاري برقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963).
(¬4) صحيح مسلم، شرح النووي (6/ 97).
(¬5) مستدرك الحاكم (5/ 191) برقم (7285)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 76) برقم (539).
(¬6) أي أجعلك سيداً على غيرك.
(¬7) جزء من حديث مسلم في صحيحه برقم (2968).
(¬8) برقم (2416)، وقال حديث حسن صحيح.
(¬9) صحيح البخاري برقم (1130)، وصحيح مسلم برقم (2820).