[عودة] الكلمة الحادية والسبعون: وقفة مع قوله تعالى
الكلمة الحادية والسبعون: وقفة مع قوله تعالى
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فيقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 14 - 17].
قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬1).
فأما إذا كان القصد بهن العفاف، وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬2).
وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -،ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، روى الإمام أبو داود في سننه من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» (¬3).
وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة للنفقة في القربات وصلة الأرحام، والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح شرعًا (¬4). اهـ.
وقوله تعالى: {وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ} قال ابن جرير رحمه الله بعدما نقل اختلاف المفسرين في المراد به: والصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير كما قال الربيع بن أنس، وقوله تعالى: {وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ} قال ابن جرير: «المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنًا لمن رآها» (¬5).
وتربية الخيل أنواع، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ، فَهْيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَيُعِدُّهَا لَهُ، فَلاَ تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرًا، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ مَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا، وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ كَانَ لَهُ، بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ - حَتَّى ذَكَرَ الأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا - وَلَوِ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلاً، وَلاَ يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا، وَيُسْرِهَا، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ، فَذَاكَ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ» (¬6).
وقوله: {وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ} الأنعام: الإبل والبقر والغنم، والحرث الأرض المتخذة للغراس والزراعة، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا}، أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الزائلة، {وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ}، أي حسن المرجع، ثم قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} أي قل يا محمد للناس الذين زين لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكرنا: أأُخبركم وأُعلمكم بخير وأفضل لكم من ذلك كله؟! {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {خَالِدِينَ فِيهَا}، أي ماكثين فيها أبد الآباد، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، أي من الدنس والخبث والأذى، والحيض والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: ... {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 27]، أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ}، أي: يعطي كلاَّ ما يستحقه من العطاء.
ثم إن الله تعالى بعد ذكره الموازنة بين متع الدنيا ونعيم الآخرة، ذكر صفات المتقين الذين آثروا نعيم الآخرة الباقي على متع الدنيا الزائلة، فاسمع لصفاتهم، وتمثلها في نفسك، عسى أن تكون منهم فتفوز فوزًا عظيمًا.
فأولها: الإيمان بالله وبرسله وكتبه، المتضمن الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه للمؤمنين من الفضل العظيم، وما أعد للكافرين الغافلين من العقاب الأليم.
ثانيها: اعترافهم بذنوبهم، وعلمهم أنه لا يغفرها إلا الله ربهم.
ثالثها: إيمانهم بالنار وعذابها، وسؤالهم ربهم أن يقيهم منها.
رابعها: صبرهم عن شهوات الدنيا وملذاتها، إيمانًا منهم بأن الله سيعوضهم خيرًا منها، والصبر من أفضل خصال الإيمان، ولا يتم إلا باستكمال أركانه الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على أقدار الله.
خامسها: الصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والصديقون مع الأنبياء والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
سادسها: قنوتهم لله رب العالمين، وذلك يقتضي محبتهم له، وانكسارهم بين يديه، والتجاءهم إليه رغبة ورهبة وخشوعًا.
سابعها: إنفاقهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته، لا رياءً وسمعة.
ثامنها: طلبهم المغفرة من ربهم في وقت الأسحار، حين ينزل الرب إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى! هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ! هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ! حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ» (¬7)، وهم يدعونه ويسألونه ويستغفرونه، والغافلون يغطون في نوم عميق.
يقول تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم (5096)، وصحيح مسلم برقم (2741).
(¬2) صحيح مسلم برقم (1467).
(¬3) قطعة من حديث في سنن أبي داود برقم (2050) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 386) برقم (1805).
(¬4) تفسير ابن كثير (3/ 26 - 27).
(¬5) تفسير ابن جرير – طبعة دار السلام (3/ 1711 - 1713).
(¬6) صحيح البخاري برقم (2860)، وصحيح مسلم برقم (987).
(¬7) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (1145)، وصحيح مسلم برقم (758).