[عودة] الكلمة السابعة والستون

دروس وعبر من غزوة تبوك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فقد اشتملت هذه الغزوة المباركة على دروس عظيمة لعلي أذكر بعضًا منها:
1- أن الجهاد بالمال لا يقل عن الجهاد بالنفس، قال تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) ﴾ [سورة التوبة، آية رقم: 41].
2- في هذه الغزوة فضيلة لعثمان رضي اللَّه عنه فقد أنفق إنفاقًا عظيمًا حتى قال صلى اللَّه عليه وسلم: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» .
3- أن فيها منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق وعمر وعبد الرحمٰن ابن عوف وغيرهم من الصحابة ممن شاركوا في الإنفاق على جيش العسرة، حيث تصدق أبو بكر بماله كله وعمر بنصف ماله، وعبد الرحمٰن بن عوف أنفق ثمانية آلاف درهمﮋ.
4- أن المنافقين دأبهم الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين، وقد ذمهم الله غاية الذم وفضح أمرهم، قال تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) ﴾ [سورة التوبة، الآيات: 64 – 66].
5- أن كثيرًا من الآيات في سورة التوبة نزلت تعالج موضوع الغزوة المباركة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج في السفر، وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين الخارجين منهم في الغزوة، والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور.
6- فضل الصحابة وحرصهم على الإنفاق في سبيل الله وتنافسهم في ذلك ولذلك جاء في الحديث: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» .
7- إن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون قبل غزوة تبوك كان مكيدة للإسلام والمسلمين لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين والكفر بالله، وقد فضحهم الله وأنزل فيهم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) ﴾ [سورة التوبة، الآيتان: 107- 108].
وكان نزول هذه الآيات عندما رجع رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم من تبوك، فلما نزلت هذه الآيات أمر بهدم المسجد.
8- أن فيها منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب عندما خلفه عند النساء والصبيان وقال: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» .
9- فيه الزجر عن السكنى في ديار المعذبين.
10- الإسراع عند المرور على ديار المعذبين .
11- ظهور بعض المعجزات والكرامات في هذه الغزوة، فمن ذلك عندما اشتد بهم العطش حتى إن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فدعا النبي صلى اللَّه عليه وسلم ربه فنزلت السحابة فأمطرت ولم تتجاوز العسكر.
روى ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، قَالَ‏:‏ خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلاَ يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ عَوَّدَكَ اللهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا، فَقَالَ‏: «أَتُحِبُّ ذَلِكَ‏؟»‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَرَفَعَ يَدَيْه صلى اللَّه عليه وسلم، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، فَسَكَبَتْ، فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ»‏ .
12- ومنها كذلك عندما أصابهم الجوع الشديد فنحروا النواضح وأكلوا منها حتى قل الظهر، فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم بفضل أزوادهم ودعا فيها بالبركة، فأكلوا جميعًا منها وحلت فيها البركة.
13- حسن خلق النبي صلى اللَّه عليه وسلم وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه، وإجراؤهم على العادة البشرية في الاحتياج إلى الزاد في السفر.
14- فيه منقبة لأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه دالة على قوة يقينه بإجابة دعاء رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم عندما أشار إليه بذلك، وعلى حسن نظره للمسلمين.
15- فيه جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم يُطلب منه الاستشارة .
16- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كغيره من البشر لا يعلم إلا ما علمه الله، ولهذا لما ضلت ناقته لم يعرف مكانها حتى دله الله عليها وأرسل من يأتي بها.
17- جواز ائتمام الفاضل بالمفضول، وهذا حصل عندما صلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم خلف عبد الرحمٰن بن عوف الركعة الأولى من صلاة الفجر ثم أتم الثانية وحدَهُ.
18- فيها منقبة لأبي ذر رضي اللَّه عنه عندما أبطأ به بعيره فأخذ متاعه وحمله على ظهره ثم خرج ماشيًا حتى أدرك النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الطريق.
19- فيها منقبة لأبي قتادة رضي اللَّه عنه وذلك بحرصه على حراسة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ودعائه صلى اللَّه عليه وسلم له.
20- أن من نام عن صلاة أو نسيها فكفارته أن يصليها إذا ذكرها، وليس في النوم تفريط. كما حصل للنبي صلى اللَّه عليه وسلم في الغزوة عندما تأخر عن صلاة الفجر وصلى خلف عبد الرحمٰن بن عوف رضي اللَّه عنه.
21- ظهور معجزات أخرى في هذه الغزوة المباركة، فقد عطش الناس وشربوا من غمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهم جمع كثير حتى ارتووا.
22- فيما جرى لأبي خيثمة رضي اللَّه عنه من ندمه على تخلفه عن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ثم استدراكه للأمر ووصوله إلى تبوك بيان أن المؤمن إذا وقع منه التقصير سرعان ما يتنبه ويستدرك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201)﴾ [سورة الأعراف، آية رقم: 201].
23- أن ساقي القوم آخرهم شربًا، لقول أبي قتادة: فشربت وشرب رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم.
24- من معجزاته صلى اللَّه عليه وسلم في هذه الغزوة إخباره ببعض الأمور الغيبية، كقوله لمعاذ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا» .
25- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يُحرس كل ليلة من أصحابه خشية العدو.
26- حرص النبي صلى اللَّه عليه وسلم ورحمته لأصحابه وذلك بقوله لهم: «أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلاَ يَقُومَنَّ أَحَدٌ» ، وكذلك ينبغي للأمير والقائد التحذير من المخاطر والأضرار.
27- كانت غزوة تبوك شاقة في بدايتها، ولكن كانت عاقبتها حميدة لما تحقق فيها من ظهور عزة الإسلام، ودخول الرعب في قلوب الأعداء، وما حصل من مكاسب سياسية من عقود، ومعاهدات، ومكاسب مالية، حصلت بالصلح والالتزام بدفع الجزية فتحقق بذلك قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ﴾ [سورة البقرة، آية رقم: 216].
28- أن المنافقين يكيدون المكائد والمؤامرات للفتك برسول الله صلى اللَّه عليه وسلم وقتله، ولا أدل على ذلك مما فعلوه بالعقبة حين هموا بطرح رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم منها، فنجاه الله منهم. وذلك يوجب أخذ الحذر منهم والاحتياط لما يتوقع من كيدهم.
29- أن فيها منقبة لحذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه صاحب سر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أخبره بأسماء هؤلاء المنافقين الذين تآمروا على قتله واستكتمه ذلك.
30- أن الذي منع النبي صلى اللَّه عليه وسلم من قتل هؤلاء المنافقين هو خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه فتحصل بذلك مفسدة تنفر الناس من الإسلام، وهذا من الأدلة للقاعدة المشهورة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
31- حب النبي صلى اللَّه عليه وسلم الشديد للمدينة ولجبل أحد، ولهذا قال: «هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» .
32- أن من حبسه العذر عن العمل الصالح كتب له أجره كاملًا فضلًا من الله.
33- مشروعية استقبال القادم من السفر وإظهار الفرح والسرور بمقدمه.
34- مشروعية هجر أصحاب المعاصي إذا كان الهجر يؤدي إلى رجوعهم وفيه مصلحة.
35- من فضائل هذه الغزوة أن الله تعالى أنزل فيها عامة سورة التوبة، فضح فيها المنافقين وكشف فيها أحوالهم، وكذلك كان يسميها بعض أهل العلم: الفاضحة.
36- أن لهذه الغزوة أعظم الأثر في بسط نفوذ المسلمين، وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة أن تبقى في العرب سوى قوة الإسلام.
37- انكسار شوكة المنافقين بعد هذه الغزوة، فقد كانوا يعقدون الآمال بانتصار الروم وهلاك المسلمين فخيب الله آمالهم.
38- أن الله أمر بالتشديد على المنافقين بعد هذه الغزوة ونهى عن قبول صدقاتهم والصلاة عليهم والاستغفار لهم، وأمر بهدم مسجدهم الضرار، وأنزل فيهم آيات تفضحهم، وكأن الآيات قد نصت على أسمائهم.
39- من فضائل هذه الغزوة تتابع الوفود من قبائل العرب الذين دخلوا في الإسلام بعد ظهور قوة المسلمين كقوة عظمى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.