[عودة] الكلمة السادسة والستون

غزوة تبوك أو العسرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع للهجرة، وهي آخر غزوات رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم.
روى البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك رضي اللَّه عنه قال: لم أتخلف عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك.. وهي آخر غزوة غزاها .
وكانت هذه الغزوة في وقت حار جدًّا وقحط، وضيق شديد في النفقة والظهر والماء؛ ولذلك سميت بالعسرة .
وقد اختلف في سبب هذه الغزوة، فروى ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بلغه أن هرقل ملك الروم جمع جموعًا كثيرة من الروم والغساسنة وقبائل العرب الموالية له، فعلم رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بهم فخرج إليهم .
ويشهد لهذا قول عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الذي يروي قصة هجر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم أزواجه، قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فينزل يومًا وأنزل يومًا. فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. وكنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فرجع إلينا عشاء، فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت له: ما هو؟ أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول طلق رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم نساءه . قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب يعني من سنة تسع، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وكان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها، إلا ما كان من غزوة خيبر، وغزوة تبوك، فغزوة خيبر، فلأن الله تعالى وعد رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بفتحها، وأما غزوة تبوك فلبعد الشقة ، وشدة الزمان، إذ كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال وأينعت الثمار، وحبب إلى الناس المقام، وكثرة العدو، والمسافة بعيدة والطريق وعرة صعبة. وكان لهذه العوامل أثرها في تثاقل بعض الناس عند النفرة، فبدأت الآيات تنزل في سورة التوبة لتعالج هذا الأمر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾ [سورة التوبة، الآيات: 38 – 40].
وأسرع المسلمون يتجهزون للخروج، وأخذت القبائل تقدم المدينة من كل حدب وصوب، منها غفار، وأسلم، وجهينة، وأشجع، وبنو كعب من خزاعة.
ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر – تاب الله عليهم في آخر الأمر – حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ليخرجوا إلى قتال الروم، قال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) ﴾ [سورة التوبة، آية رقم: 92].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم أَسْأَلُهُ الحُمْلاَنَ لَهُمْ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ العُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوك،َ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْء»، وَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِيِّ صلى اللَّه عليه وسلم، وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وسلم وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمُ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وسلم، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً، إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي: أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: «خُذْ هَذَيْنِ القَرِينَيْنِ - لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ -، فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ» الحديث.
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال، وبذل الصدقات، فهذا عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه كان قد جهز عيرًا للشام، مائتي بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتي أوقية، فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى اللَّه عليه وسلم ،فكان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يقلبها ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ» .
قال الزهري: جهز عثمان بن عفان جيش المسلمين في تبوك بستعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا.
وجاء عبد الرحمٰن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله وكانت أربعة آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد ابن سلمة، كلهم جاءوا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها حتى كان منهم من أنفق مدًّا أو مدين ولم يكن يستطيع غيرها، وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتم، ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون وكانوا يؤذون المؤمنين، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) ﴾ [سورة التوبة، آية: 79].
وهكذا تجهز الجيش، واستعمل رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل: سباع بن عرفطة. وخلف على أهله علي بن أبي طالب وأمره بالإقامة فيهم، وغمض عليه المنافقون فخرج فلحق رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فرده إلى المدينة وقال: «أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي» .
وتحرك رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيرًا ثلاثين ألف مقاتل، ولم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط، فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزًا كاملًا، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمركب، فكان ثمانية عشر رجلًا يعتقبون بعيرًا واحدًا، وربما أكلوا أوراق الشجر حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح الإبل مع قلتها ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العسرة، ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحجر ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القرى.
روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء ، وفي رواية: وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لما مر بالحجر قال: «لا تَدْخُلُوا علَى هَؤُلَاءِ المُعَذَّبِينَ إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فلا تَدْخُلُوا عليهم، لَا يُصِيبَكُمْ ما أصَابَهُمْ» . وفي رواية: ثُمَّ قَنَّع رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الوَادِي .
واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فدعا الله، فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء، ولما قرب من تبوك وجدوا عينها قليلة الماء، ولكن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ»، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم: «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟» قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وسلم، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ. قَالَ: ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، قَالَ: وَغَسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِر ٍ- أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ- فاسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا» .
وأخبر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم أصحابه أنه ستهب عليهم وهم في تبوك ريح شديدة، فقد روى الشيخان من حديث أبي حميد الساعدي رضي اللَّه عنه قال: غزونا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم غزوة تبوك فلما أتينا تبوكًا قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «أَمَا إنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، ومَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ». فَعَقَلْنَاهَا، وهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ، فألْقَتْهُ بجَبَلِ طَيِّئٍ .
ولكن دأب رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما. ونزل الجيش الإسلامي بتبوك، وعسكر واستعد للقاء العدو، وخطب رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في أصحابه، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يوم خطب الناس بتبوك: «مَا فِي النَّاسِ مِثْلُ رَجُلٍ آخِذٍ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَجْتَنِبُ شُرُورَ النَّاسِ، وَمِثْلُ آخَرَ بَادٍٍ فِي نِعْمِهِ يَقْرِي ضَيْفَهُ وَيُعْطِي حَقَّهُ» .
وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية في داخل الجزيرة وأرجائها النائية. وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة لعلهم لم يكونوا يحصلوا عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين. وجاء يُحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالح الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأهل أذرح فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم كتابًا فهو عندهم، وصالحه أهل ميناء على ربع ثمارها، وبعث رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل في أربعمائة وعشرين فارسًا وقال له: «إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ» فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين خرجت بقرة تحك بقرونها باب القصر، فخرج أُكيدر لصيدها، وكانت ليلة مقمرة، فتلقاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يُحنة على قضية دومة، وتبوك، وأيلة، وتيماء، وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين. وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير.
ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين لم ينالوا كيدًا، وكفى الله المؤمنين القتال. وفي الطريق إلى المدينة تآمر اثنا عشر رجلًا من المنافقين، وقيل: أربعة عشر أو خمسة عشر على الغدر برسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ومزاحمته على العقبة .
ولكن الله عصم رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم منهم، فروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي الطفيل رضي اللَّه عنه قال: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ .
فقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم لحذيفة: «قَدْ، قَدْ» حتى هبط رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ورجع عمار، فقال: «يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟ » فقال: قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون، قال: «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم فَيَطْرَحُوهُ»، قال: فسأل عمار رجلًا من أصحاب رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ فقال: أربعة عشر، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، فعذر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الأثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
قال ابن كثير رحمه اللَّه، وقد ورد أن نفرًا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم وهم في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلًا، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية : ﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ﴾ [سورة التوبة، آية رقم: 74].
ولما لاحت للنبي صلى اللَّه عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال: >هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان يقابلن الجيش بحفاوة بالغة، روى البخاري في صحيحه من حديث السائب بن يزيد رضي اللَّه عنه قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك .
وكان خروجه إلى تبوك في رجب وعودته إلى المدينة في رمضان ضحى، «وقال بعضهم: إن قلنا أن عودته صلى اللَّه عليه وسلم في رمضان فهذا يقتضي خروجه صلى اللَّه عليه وسلم إلى تبوك في الخميس الثاني من شهر رجب وذلك الخميس يوافق الخامس والعشرين من شهر أكتوبر، وهو من الأيام المعتدلة القريبة من البرد ولاسيما في الصباح والمساء وتأتي بعد جذاذ التمر بزمان، بينما الخروج إلى تبوك كان في شدة الحر وفي أيام جذاذ التمر، ثم إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان موجودًا في المدينة في شهر شعبان من هذه السنة حين توفيت ابنته أم كلثوم، فالصحيح أنه صلى اللَّه عليه وسلم رجع إلى المدينة في شهر رجب، وكان خروجه قبل ذلك بخمسين يومًا أي في شهر جمادى الأولى» .
وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضُحى، وكان يبدأبالمسجد، فأتى مسجده فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس.
فأما المنافقون – وهم بضعة وثمانون رجلًا فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله.
أما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فاختاروا الصدق، فأمر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة. وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة وتغير لهم الناس حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أُمروا أن يعتزلوا نساءهم حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل الله توبتهم، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾ [سورة التوبة، آية رقم: 118].
وقال تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91)﴾ [سورة التوبة، آية رقم: 91]. وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحًا عظيمًا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم،
وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم فيهم حين دنا من المدينة: «إِنَّ بِالمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وَهُمَ بِالمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ العُذْرُ» .
فيتلخص من هذا ما ذكره ابن كثير رحمه اللَّه: «أن المتخلفين عن غزوة تبوك أربعة أقسام: مأمورون مأجورون كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وابن أم مكتوم، ومعذورون وهم الضعفاء والمرضى والمقلون وهم البكاءون، وعصاة مذنبون وهم الثلاثة أبو لبابة وأصحابه المذكورون، وآخرون ملومون مذمومون وهم المنافقون» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .