[عودة] الكلمة الرابعة والستون
شرح اسم الله: «القوي المتين»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في كتاب الله: القوي المتين.
أما القوي فقد جاء ذكره في القرآن في عدد من المواضع، قال تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)﴾ [سورة الأنفال، آية رقم: 52].
وقال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) ﴾ [سورة الحج، آية رقم: 40]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) ﴾ [سورة هود، آية رقم: 66].
وأما المتين فقد ورد مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)﴾ [سورة الذاريات، آية رقم: 58].
قال ابن جرير رحمه اللَّه في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)﴾ إن الله قوي لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه راد، ينفذ أمره، ويمضي قضاءه في خلقه، شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه .
وقال الخطابي رحمه اللَّه: «القوي قد يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه، ويكون معناه: التام القوة الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، والمخلوق وإن وصف بالقوة فإن قوته متناهية وعن بعض الأمور قاصرة» .
وقال الشيخ السعدي رحمه اللَّه: «القوي المتين، هو في معنى العزيز، والعزيز الذي له العزة كلها، عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة، وخضعت لعظمته، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد. ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى وعصفت بهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين» .
أما المتين، فقد قال ابن قتيبة: «الشديد القوي» ، وقال الخطابي: المتين الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته، ولا تلحقه في أفعاله مشقة ولا يمسه لغوب .
وفي المقصد: القوة تدل على القدرة التامة، والمتانة تدل على شدة القوة لله تعالى .
قال ابن القيم رحمه اللَّه:
وَهُوَ القَوِيُّ لَهُ القُوَى جَمعًا
تعَــالَى اللَّهُ ذُو الأَكْوَانِ وَالْأَزْمَانِ
من آثار الإيمان بهذين الاسمين:
1- أن القوة لله جميعًا وحده لا شريك له، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، فالعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله، قال تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ﴾ [سورة آل عمران، آية رقم: 160]،
وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾ [سورة المجادلة، آية رقم: 21].
فينبغي التعلق بالله والالتجاء إليه وحده، وطلب النصر منه إيمانًا ويقينًا بحصول النجاة مما يخاف والامتناع مما يضر والدفع لكل مكروه، قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾ [المجادلة، آية رقم: 21].
2- قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ﴾ [سورة مريم، آية رقم: 12]، قال ابن كثير رحمه اللَّه: أي بجد وحرص واجتهاد ، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾ [سورة القصص، آية رقم: 26]، وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾ [سورة الأنفال: آية رقم: 60]، تضمن هذان الاسمان الكريمان صفتين عظيمتين وهما القوة والمتانة، وقد وهب الله تعالى لعباده من هاتين الصفتين ما يليق بهم. وقد وردت النصوص تحث على الاتصاف بهما، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وإنْ أَصَابَكَ شيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» .
3-أنه يشرع للمؤمن أن يسأل ربه بهذا الاسم: القوي المتين، أن يرزقه ويشفيه ويعطيه من خير الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) ﴾ [سورة الذاريات، آية رقم: 58]، روى مسلم في صحيحه والترمذي من حديث عثمان بن أبي العاص رضي اللَّه عنه أنه قال: أَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم: «امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ». قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللهُ مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ .
4- أنه لا قوة للعبد على طاعة اللَّه عز وجل إلا بقوة الله تعالى وتوفيقه، ولا حول له على اجتناب المعاصي إلا بالله تعالى، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن قيس رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال له: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ، قال النووي رحمه اللَّه: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر .
وقيل: معناه: «لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله».
5- الإيمان بهاتين الصفتين في الدنيا يفضي بصاحبه إلى أنه لا يتعلق إلا بالله، ولا يعتمد إلا على الله تعالى، ويتخلى عن كل ما دونه لعلمه أن ما دون الله ضعيف لا قوة له ولا حول. وهذه الحقيقة تنكشف يوم القيامة لمن تعلق بغير الله في الدنيا ولكن لا ينفعهم، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾ [سورة البقرة، آية رقم: 165].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.