[عودة] الكلمة الثالثة والستون

شرح اسم الله: «الملك المالك المليك»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة الملك، والمالك، والمليك، وقد ورد ذكر الملك في عدة مواضع، قال تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) ﴾ [سورة طه، آية رقم: 114]، وقال تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)﴾ [سورة الجمعة، آية رقم: 1]، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2)﴾ [سورة الناس، آيتان رقم: 1-2]، وقال تعالى: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
﴾ [سورة غافر، آية رقم: 16]، وقد ورد ذكر المليك مرة واحدة، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) ﴾ [سورة القمر، آيتان رقم: 54- 55]، وقد ورد ذكر اسم المالك مرتين في قوله تعالى:﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ﴾ [سورة الفاتحة، آية رقم 4]، وفي قوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾ [سورة آل عمران، آية رقم: 26].
قال الزجاج: وقال أصحاب المعاني: «الملك؛ النافذ الأمر في ملكه، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره أو تصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك، والله تعالى مالك المالكين كلهم، والملاك إنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته تعالى» .
وقال الخطابي رحمه اللَّه: «الملك هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات» .
«فأما المالك فهو الخاص الملك» . أما المليك الذي ورد ذكره في قوله تعالى:﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾[سورة القمر، آية رقم: 55]، قال ابن كثير رحمه اللَّه: «أي: عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون» .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: «إن حقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع والإكرام والإهانة والإثابة والعقوبة والغضب والرضا والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز وإذلال من يليق به الذل، قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)﴾ [سورة آل عمران، آيتان رقم: 26- 27]، وقال تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾ [سورة الرحمٰن، آية رقم: 29]، يغفر ذنبًا ويفرج كربًا، ويكشف غمًا وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفك عانيًا، ويغني فقيرًا، ويجبر كسيرًا، ويشفي مريضًا، ويقيل عثرة ويستر عورة، ويعز ذليلًا، ويذل عزيزًا، ويعطي سائلًا، ويذهب بدولة، ويأتي بأخرى، ويداول الأيام بين الناس، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين، يسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه وجرى به قلمه، ونفذ حكمه، وسبق به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده، تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك، لا ينازعه في ملكه منازع ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرفه عن ذلك» .
من آثار الإيمان بهذا الأسماء:
1- تفرد الله تعالى بالملك لا شريك له دليل ظاهر على وجوب إفراده وحده بالعبادة، قال تعالى: ﴿ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (6)﴾ [سورة الزمر، آية رقم: 6]، وقال تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾[سورة المؤمنون، آية رقم: 116]» .
وأن عبادة من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا أعظم الضلال، قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) ﴾[سورة الزمر، آية رقم: 67].
2- اختصاصه بالملك سبحانه يوم القيامة، قال تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾ [سورة الفاتحة، آية رقم: 4]، إنما اختص الله نفسه بأنه مالك يوم الدين مع أنه مالك الدنيا والآخرة لأمرين اثنين:
(أ) أن الله يبدل الأرض في ذلك اليوم غير الأرض والسموات غير السموات، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)﴾
[سورة إبراهيم، آية رقم: 48].
(ب) أن البشر لهم شبهة ملك في الحياة الدنيا، فهم يملكون الضياع والقصور والبساتين والذهب والفضة، ولكنهم بين خيارين، إما أن يزول عنهم ما يملكونه في الدنيا، وإما أن يزولوا عنه ويخلفوه وراءهم، فهو ملك زائل وعارية مسترجعة. وفي يوم الحساب والجزاء لا يملكون شيئًا، فالناس في ذلك اليوم يحشرون حفاة عراة غرلًا بهمًا، كما قال سبحانه: ﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ ﴾ [سورة الأنعام، آية رقم: 73]، وقال تعالى: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ ۚ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)﴾ [سورة الفرقان، آية رقم: 26].
3- أن الله تعالى الملك له القدرة العظيمة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) ﴾ [سورة فاطر، آية رقم: 44].
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم من أهل الكتاب فقال: يَا أبَا الْقَاسِمِ! أَبَلَغَكَ أَنَّ اللهَ يَحْمِلُ الخَلَائِقَ عَلَى إصْبَعٍ، وَالسَّمَاوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ، والأرَضِينَ عَلَى إصْبَعٍ، والشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ، والثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ؟! فَضَحِكَ النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فأنزلَ ا اللَّه عز وجل: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ . وفي رواية: يقول الله تبارك وتعالى: «أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟» .
وروى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾ [سورة الزمر، آية رقم: 67]، وَرَسُولُ الله صلى اللَّه عليه وسلم يَقُولُ هَكَذَا بِيَدِهِ وَيُحَرِّكُهَا، يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ: «يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ»، فرجف برسول الله صلى اللَّه عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرَّن به .
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه في قصة الرجل - الذي هو آخر من يدخل الجنة - وجاء فيه أن الله يقول له: «اذْهَب فَادْخِلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا، فيََقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي - أوْ: تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ المَلِكُ»، فَلقَدْ رَأَيْتُ رَسولَ الله صلى اللَّه عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ ، وفي رواية: «إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ» .
4- تحريم التسمِّي بملك الملوك، وأن الله يبغض من تسمَّى بذلك، أو حاكم الحكام أو سلطان السلاطين، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «أَخْنَى الْأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ» .
زاد ابن أبي شيبة في روايته: «لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ » .
قال الأشعثي: قال سفيان: مثل شاهان شاه.
وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو عن أخنع؟ فقال: أوضع.
وفي رواية مسلم: «أغْيَظُ رَجُلٌ علَى اللَّهِ يَومَ القِيامَةِ، وأَخْبَثُهُ وأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ، رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ، لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ» .
قال ابن حجر رحمه اللَّه: واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه مثل: خالق الخلق، وأحكم الحاكمين، وسلطان السلاطين، وأمير الأمراء .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا «قاضي القضاة»، وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي بالحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون .
5- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يمجد ربه ويُثني عليه بهذا الاسم: الملك، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...» الحديث.
وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: كان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم إذا أمسى قال: «أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»، قال الحسن: فحدثني الزبيد أنه حفظ عن إبراهيم في هذا: «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ»، وإذا أصبح قال ذلك أيضًا : «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.