[عودة] الكلمة الثانية والستون

شرح اسم الله: «الستير»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في السنة الستير، فروى أبو داود في سننه من حديث يعلى رضي اللَّه عنه: أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» .
وللستير روايتان، إحداهما كسر السين وتشديد التاء مكسورة، وذلك في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: ««إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ» .
والثانية: فتح السين وكسر التاء مخففة .
قال البيهقي: الستير يعني أنه ساتر على عباده كثيرًا ولا يفضحهم في المشاهد، وكذلك يحب من عباده الستر على أنفسهم، واجتناب ما يشينهم، والله أعلم .

وقال ابن الأثير:ستير فعيل بمعنى فاعل، أي من شأنه وإرادته حب الستر والصون ، قال ابن القيم رحمه اللَّه:
وَهُوَ الحَيِيُّ فَلَيْسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ
عِنْدَ التَّجاهُرِِ مِنْهُ بِالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ
فَهُوَ السِّتِّيرُ وَصَاحِبُ الغُفرَانِ

وقال المناوي: ستير بالكسر والتشديد، أي تارك لحب القبائح، ساتر للعيوب والفضائح، فعيل بمعنى فاعل .
من آثار الإيمان بهذا الاسم (الستير):
1- أن الله تعالى ستير يحب الستر والصون، فيستر على عباده الكثير من الذنوب والمعاصي.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رجلًا سأله: كيف سمعت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يقول في النجوى، قال: سمعت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ» .
قال المهلب: « في الحديث تفضل الله على عباده بستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم» .
2-أن الله أمر بالستر وكره المجاهرة بالمعصية، ومحبة نشرها بين الناس، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) ﴾ [سورة النور، آية رقم: 19].
فإذا كان مجرد الحب صاحبه مهدد بالعذاب، فكيف بمن يجهر وينشر ويساعد على هذه الفواحش والمنكرات؟ بل ويسن القوانين لحمايتها.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا المُجَاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» .
قال ابن بطال رحمه اللَّه: «في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم. وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدًّا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك .
3- إن الله يحب الستر فإذا تلبس المؤمن بشيء من هذه القاذورات فعليه التوبة وأن يستر ذلك ويكثر من الأعمال الصالحة.
روى الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قال: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ،ِ وَلْيُتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لْنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
4- أن الله تعالى نهى عن تتبع عورات المسلمين وحث على الستر عليهم فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي برزة الأسلمي رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوَرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» .
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «...وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
قال النووي رحمه اللَّه: «المراد بالستر؛ الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يُستر عليه، فيرفع أمره إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، لأن الستر عليه يطمعه في الإيذاء والفساد» .
5- كان من دعائه صلى اللَّه عليه وسلم طلب الستر من الله، روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي، - وقال عثمان: عَوْرَاتِي- وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» . قال أبو داود، قال وكيع: يعني: الخسف .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.