[عودة] الكلمة الثانية والستون: فضل الدعوة إلى الله

الكلمة الثانية والستون: فضل الدعوة إلى الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء عليهم السلام في سورة النساء، ثم قال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
فبيَّن تعالى في هذه الآية وظيفتهم، وهي دعوة الناس إلى الله تعالى تبشيرًا بالخير، وتحذيرًا من الشر، قال تعالى لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * َدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] ثم أمره أن يبين لأمته أن هذه وظيفته ووظيفة أتباعه، فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
فالرسل وأتباعهم مأمورون بدعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، وإنذارهم عن الشرك به ومعصيته، وهذا مقام شريف، ومرتبة عالية لمن وفقه الله تعالى للقيام بها على الوجه الذي يُرضي الله تعالى.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ولما عرف الصالحون شرف هذه المهمة حرصوا عليها، فلم يسيروا إليها مشيًا؛ بل سعوا لها سعيًا، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} [يس: 20].
روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ لَمَّا أرسله لقتال اليهود في خيبر: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيْهِ. فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُوْنَ لَكَ حُمْرُ الْنَّعَمِ» (¬1).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُوْرِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شَيْئًا» (¬2)، فتأمَّل أخي هذا الفضل العظيم، فإنَّ الداعي إلى الله يجري له ثواب من اهتدى بدعوته وهو نائم في فراشه، أو مشتغل في مصلحته؛ بل إن ذلك يجري له بعد موته، لا ينتهي ذلك إلى يوم القيامة.
وبعد ما تقدَّم أذكِّر نفسي وإخواني ببعض الوصايا، التي أرجو أن تكون علامات يستنيرون بها في طريق الدعوة إلى الله.
أولاً: أوصي الداعية إِلى الله بالإِخلاص في دعوته، وقد أرشد تعالى إلى ذلك بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108].
قال الشيخ الإِمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وفيه مسائل منها: التنبيه على الإِخلاص؛ لأن كثيرًا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه (¬3)، قال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء.
وهذا موسى عليه السلام لما أمره الله بدعوة فرعون سأل ربه أن يرزقه حسن الإِبانة عما يريد، لا ليُقال خطيبًا أو فصيحًا كما أخبر سبحانه أنه قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27].
ثانيًا: على الداعي إلى الله أن يتزود بالعلم الشرعي، كما قال تعالى لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فإنه بهذا تكون دعوته أقرب إلى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحري بمن كان كذلك أن تستجاب دعوته.
قال ابن القيم رحمه الله: وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد، وأجلها، وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى أقصى حد يصل إليه السعي، ويكفي في هذا شرف العلم، أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء (¬4). اهـ.
ثالثًا: دل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]: أن من توفر فيه هذان الأمران، كانت دعوته واجبة القبول.
وهما: ألا يأخذ على دعوته أجرًا سوى ما يرجوه من ربه (¬5)، وأن يكون من المهتدين، وذلك يشمل هدايته في دعوته وهدايته في نفسه، وفي ضمن هذا التنبيه للدَّاعي إلى الله كما يدعو الناس بقوله أن يدعوهم بعمله.
رابعًا: الصبر في سبيل الدعوة إلى الله، كما قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].
ومن لوازم الصبر ألا يستطيل الطريق، ولا يستعجل النتائج. روى البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردته في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِيْ الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيْهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوْضَعُ عَلَى رَاسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيْدِ ما دُوْنَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِيْنِهِ. وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيْرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُوْنَ» (¬6).
خامسًا: يجب أن يعلم الدعاة وغيرهم أن دعوة الإِسلام دعوة عالمية، يجب أن تنتشر، وأن تبلَّغ إلى الناس جميعًا، في مشارق الأرض ومغاربها؛ لتقوم الحجة على العباد، ولكي تصل دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى كل من بعث إليهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].
وقد علم الدعاة المصلحون ورثة الرسل هذه الحقيقة، فقاموا وبينوها للناس امتثالاً لأمر ربهم حين قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [آل عمران: 104].
قال سماحة الشيخ الإِمام العلامة ابن باز رحمه الله: الواجب على جميع القادرين من العلماء وحكام المسلمين والدعاة الدعوة إلى الله، حتى يصل البلاغ إلى العالم كافة في جميع أنحاء المعمورة، وهذا هو البلاغ الذي أمر الله به، قال الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].
فالرسول عليه البلاغ، وهكذا الرسل جميعًا عليهم البلاغ وعلى أتباع الرسل أن يبلغوا.
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَلِّغُوْا عَنِّي وَلَو آيَةً» (¬7).
وليس بخافٍ على كل من له أدنى علم أو بصيرة أن العالم الإِسلامي اليوم، بل العالم كله في أشد الحاجة إلى الدعوة الإِسلامية الصحيحة، التي تشرح للناس حقيقة الإِسلام، وتوضح لهم أحكامه ومحاسنه، وبذلك يتضِّح لكل طالب علم أن الدعوة إلى الله من أهم المهمات، وأن الأمة في كل زمان ومكان في أشد الحاجة إليها؛ بل في أشد الضرورة إلى ذلك، فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوادعوة الله؛ وأن يصبروا على ذلك، وأن تكون دعوتهم نابعة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وعلى طريقة الرسول وأصحابه ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم (¬8).
وقال أيضًا: فعند قلة الدعاة وكثرة المنكرات وغلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها من تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة؛ لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره، ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقتهم وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة، وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم (¬9).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح مسلم برقم (2406).
(¬2) صحيح مسلم برقم (2674).
(¬3) كتاب التوحيد (ص16).
(¬4) التفسير القيم (ص319).
(¬5) ولا يدخل في ذلك ما يأخذه من كلف بالدعوة من أجر من بيت المال.
(¬6) صحيح البخاري برقم (6943).
(¬7) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (3461).
(¬8) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (1/ 248، 333) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1959، 1960).
(¬9) مجموع فتاوى ومقالات للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (1/ 332).