[عودة] الكلمة السابعة والأربعون
تأملات في سورة الأعلى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد.. فمن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة الأعلى، قال تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10)وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17) إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)﴾. روى مسلم في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ . وفي الركعة الأولى من الوتر إذا أوتر بثلاث .
قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾ الخطاب هنا للنبي صلى اللَّه عليه وسلم وأمته: أي نزه ربك عن النقائص والعيوب وعن كل ما لا يليق به تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وذكر الاسم يدل على أن التسبيح يكون بالتلفظ باسم الرب باللسان، فينزه العبد ربه بلسانه كما ينزهه بجنانه. والأعلى صفة لربك وهي اسم تفضيل أي الأعلى على كل شيء بجميع أنوع العلو ذاتًا وقدرًا وقهرًا، كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ۚ ﴾ [سورة النحل، آية رقم: 60]، وقال سبحانه: ﴿هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) ﴾ [سورة الأنعام، آية رقم: 18].
قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴾، أي خلق جميع المخلوقات. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا قرأ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ قال: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» ، أي الذي خلق نفسي من العدم فأتقن خلقها، وجعلها مستوية في أحسن تقويم، وفي هذا إشارة إلى كمال قدرته تعالى وعلمه وحكمته.
قوله تعالى: ﴿الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾ من التقدير: أي جعل لكل شيء قدرًا في ذاته وصفاته وفعله وأجله وكل ما يتعلق به، كما قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [سورة الفرقان، آية رقم: 2]، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» . فهدى: أي هدى كل مخلوق إلى ما يناسبه فهدى الإنسان إلى الخير والشر، والأنعام إلى مصالحها وعلَّمها أسباب بقائها، كما قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50) ﴾ [سورة طه، آية رقم: 50].
قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) ﴾ أي أنزل من السماء ماء فأنبت به أصناف النبات والعشب الكثير فرتع فيه الناس والبهائم وجميع الحيوانات، ثم بعد أن استكمل ما قُدر له من الشباب ألوى نباته، وصوح عشبه، فجعله يابسًا أسود، من الحُوة وهي سمرة تقرب من السواد، وهو في كلا الحالين علف للدواب.
قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ﴾ أي سنقرئك أيها النبي القرآن قراءة فلا تنساه، أي لا يذهب من صدرك، والذي يقرئ النبي صلى اللَّه عليه وسلم هو جبريل عليه السلام، وأضاف الله الإقراء إلى نفسه المقدسة لأنه الآمر بذلك. وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يتعجل إذا جاء جبريل يُلقي عليه الوحي فقال الله له: ﴿لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾ [سورة القيامة، آيات رقم: 16-19] فصار النبي صلى اللَّه عليه وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرأه . وفي الآية بشارة من الله تعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم أنه يقرئه القرآن ويحفظه ولا ينسى منه شيئًا، وتلك معجزة له عليه الصلاة والسلام، فمع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وليس راوية للأشعار والأخبار فإن الله يسر له حفظ القرآن ووعده باستمرار الوحي كما يفيده الفعل المضارع «سنقرئك» وقد وقع ذلك حقًا، وأمنه من نسيانه، وربما نُسي النبي صلى اللَّه عليه وسلم آية من كتاب الله ولكنه سرعان ما يذكرها عليه الصلاة والسلام.
روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي اللَّه عنها: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم سمع رجلًا يقرأ من الليل فقال: «يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا مِن سُورَةِ كَذَا وَكَذَا» .
قوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ ﴾ أي إلا ما شاء الله أن تنساه، وهو ما قضى الله بنسخه لحكمة وأن ترفع تلاوته وحكمه، قال تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) ﴾ [سورة الرعد، آية رقم: 39].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ﴾ أي يعلم ما يعلنه العباد من الأقوال والأفعال وما يخفونه فالله لا تخفى عليه خافية، كما قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ ﴾ [سورة ق، آية رقم: 16].
قوله تعالى: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴾ أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعًا سهلًا سمحًا مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر.
قوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ﴾ أي ما دامت الذكرى مقبولة والموعظة مسموعة سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه، ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى بأن كان التذكير يزيد في الشر أو ينقص من الخير لم تكن مأمورًا بها، بل منهيًّا عنها، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين: منتفعين وغير منتفعين.
قوله تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴾ أي هؤلاء هم المنتفعون، أي سينتفع بهذا التذكير والموعظة من يخاف الله. والخشية نوع من الخوف لكن يصاحبها تعظيم للمخوف منه وعلم به؛ فهي أخص من الخوف.
قوله تعالى: ﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ أي البالغ الشقاوة وهو الكافر، كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾[سورة هود، آية رقم: 106]، والشقاوة ضد السعادة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [سورة هود، آية رقم: 105]. وحقيقة الشقاوة مقاساة أنواع الآلام الجسدية والنفسية، وأعظم ذلك ما يكون لأهل النار.
قوله تعالى: ﴿ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ﴾ أي العظمى وهي نار الآخرة، فيدخلها ويقاسي حرها، وسمَّاها كبرى بالنسبة إلى نار الدنيا، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» .
قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ﴾ أي لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة هنيئة فينتفع بها، فحياته في النار شقاء وعذاب، قال تعالى: ﴿مَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ ﴾ [سورة فاطر، آية رقم: 36]، ولما ذكر تعالى وعيد الأشقى المعرض عن الذكرى، ذكر وعد الذي يخشى ويتذكر بالذكرى فزكى نفسه بالإيمان والتوحيد والذكر والصلاة.
قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴾ أي فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والمعاصي وسائر الأخلاق الرديئة. قوله تعالى: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ﴾ يحتمل أن يراد به الذكر العام من التهليل والتسبيح والتكبير مما يبعث على أداء ما افترض الله وأعظم ذلك الصلاة، كما قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [سورة طه، آية رقم: 14]، ويحتمل أن يراد به ذكر خاص وهو تكبيرة الإحرام التي يحصل بها الدخول في الصلاة والآية عامة، وبهذا يظهر عطف الصلاة على الذكر بالفاء، وقيل: المراد زكاة الفطر وصلاة العيد، وهذا بعيد لأن السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر.
قوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي لا تفعلون ما ذكر من التزكي والذكر والصلاة مما هو سبب الفلاح بل تفضلون الحياة الدنيا على الآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ والحال أن الآخرة خير، لما فيها من النعيم المقيم والسرور الدائم، ولا يلحقها زوال، خلافًا للدنيا فإنها فانية، فكيف يقدم الفاني على الباقي؟ روى ابن جرير في تفسيره عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قرأ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾ فلما وصل إلى قوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)﴾ ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل. قال ابن كثير رحمه اللَّه: «وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم» .
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)﴾ ﴾ أي ما تقدم من قوله:﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) ﴾ إلى قوله:﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17) ﴾ أي أن معنى هذا الكلام مذكور في الصحف الأولى المتقدمة التي أنزلها الله على إبراهيم الخليل وموسى الكليم وهما أفضل أولي العزم بعد محمد صلى اللَّه عليه وسلم، والقرآن مصدق لها، وذلك المعنى مما اتفقت عليه الشرائع كلها، ونظير هذه الآيات قوله تعالى في سورة النجم: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .