[عودة] الكلمة الرابعة والثلاثون
مقتطفات من سيرة فاطمة بنت محمد بن عبد الله صلى اللَّه عليه وسلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فهذه سيرة سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء بنت إمام المتقين رسول الله محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب بن هاشم، القرشية الهاشمية، صلى الله على أبيها وآله وسلم ورضي عنها، كانت تُكنى أم أبيها، وتُلقب الزهراء، وهي أم الحسنين، قال عبدالرزاق عن ابن جريج: قال لي غير واحد: كانت فاطمة أصغر بنات النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وأحبهن إليه، قال ابن عبدالبر: اختلفوا في أيتهن أصغر، والذي يسكن إليه اليقين أن أكبرهن زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، واختلفوا في سن مولدها، قال العباس: ولدت فاطمة والكعبة تُبنى، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة، وبهذا جزم المدائني، وقال بعضهم: كان مولدها قبل البعثة بقليل نحو سنة أو أكثر، وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين، وانقطع نسل رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم إلا من فاطمة.
وتزوجها ابن عمها علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في السنة الثانية بعد غزوة بدر في ذي القعدة أو قبله، ولها يومئذ ثماني عشرة سنة، وقال ابن عبدالبر: دخل بها بعد وقعة أُحد، فولدت له الحسن والحسين ومحسنًا وأم كلثوم وزينب.
وقد كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يحبها ويكرمها ويسير إليها، ومناقبها غزيرة. وكانت صابرة دينة خيرة حيية قانعة شاكرة لله، وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يغضب لها، وهي بضعة منه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث المسور بن مخرمة رضي اللَّه عنه قال: إن عليًّا خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل، فقام رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فسمعته حين تشهد يقول: «أَمَّا بَعْدُ أَنْكَحْتُ أَبَا العَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا» . وفي رواية: «وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ مَكَانًا وَاحِدًا أَبَدًا» ، فترك علي الخطبة رعاية لها، فما تزوج عليها ولا تسرى، فلما توفيت تزوج وتسرىﮋ.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن أبي نجيح عن أبيه عن رجل سمع عليًّا رضي اللَّه عنه يقول: أَرَدْتُ أَنْ أَخْطُبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم ابْنَتَهُ، فَقُلْتُ: مَا لِي مِنْ شَيْءٍ فَكَيْفَ؟ ثُمَّ ذَكَرْتُ صِلَتَهُ وَعَائِدَتَهُ، فَخَطَبْتُهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا؟» قَالَ: هِيَ عِنْدِي. قَالَ: «فَأَعْطِنِيهَا»، قَالَ: فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ .
وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث بريدة رضي اللَّه عنه أن عليًّا رضي اللَّه عنه لما خطب فاطمةﭫ قال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم ليلة العرس: «لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَلْقَانِي» ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ أَفْرَغَهُ عَلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: «اللهُمَّ بَارِكْ فِيهِمَا، وَبَارِكْ لَهُمَا فِي بِنَائِهِمَا» .
وكانت فاطمة أشبه الناس برسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في هديه وسمته، فروى أبو داود في سننه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا - وَقَالَ الْحَسَنُ: حَدِيثًا، وَكَلَامًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَسَنُ السَّمْتَ، وَالْهَدْيَ، وَالدَّلَّ - بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَﭫ، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وسلم غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ ، مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) ﴾ [الأحزاب: ٣٣ ]» . وفي رواية لمسلم: ولما نزلت هذه الآية: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ﴾ دعا رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، فقال: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهلِي» .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: «ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرًا، دعا النبي صلى اللَّه عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصًا به وهم علي وفاطمة وسيدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله يسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل لم يبلغوها بمجرد حولهم وقوتهم» .
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللَّه عنه: أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم لما زوجه فاطمة بعث معه بخميلة ووسادة من أدمٍ حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين، فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى قد اشتكيت صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسبيٍ، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: ما جاء بك أي بُنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيناه جميعًا، فقال علي: يا رسول الله، والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ». فرجعا، فأتاهما النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: «عَلَى مَكَانِكُمَا»، ثم قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟» قَالَا: بَلَى، فَقَالَ: «كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: تُسَبِّحَانِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا، وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا - فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ». قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، قال: فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم، ولا ليلة صفين .
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: خط رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط، قال: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ بْنَتُ عِمْرَانَ» .
وكانت فاطمة تخدم في بيت زوجها كغيرها من النساء ويصيبها التعب في ذلك، وقَالَ النَّبِيُ صلى اللَّه عليه وسلم لَهَا فِي مَرَضِهِ: «إِنِّي مَقْبُوْضٌ فِي مَرَضِي هَذَا»، فَبَكَتْ. وَأَخْبَرَهَا أَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوْقًا بِهِ، وَأَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ. فَضَحِكَتْ، وَكَتَمَتْ ذَلِكَ.
روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت: اجتمع نساء النبي صلى اللَّه عليه وسلم فلم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: «مَرْحَبًا بِابْنَتِي» فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضًا، فقلت لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فقلت لها حين بكت: أخصك رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، حتى إذا قُبض سألتها، فقالت: إنه كان حدثني: «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ»، فَبَكَيْتُ لِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي، فَقَالَ: «أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّة؟ِ» فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ . وفي سنن الترمذي من حديث حذيفة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ، وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .
ولما توفي النبي صلى اللَّه عليه وسلم حزنت عليه وبكته، وقال: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ. فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم التُّرَابَ .
ولما توفي أبوها تعلقت آمالها لميراث والدها، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، فحدثها أنه سمع من النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . فوجدت عليه، ثم تعللت .
قال الشعبي رحمه اللَّه: لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علي: يا فاطمة! هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له، قال: نعم، قال الذهبي رحمه اللَّه: عملت السنةﭫ، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره، قال: فأذنت له فدخل عليها يترضاها، وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله، ومرضاتكم أهل البيت، قال: ثم ترضاها حتى رضيت .
قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «عاشت فاطمة بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم ستة أشهر، ودفنت ليلًا» .
قال الواقدي رحمه اللَّه: «هذا أثبت الأقاويل عندنا، قال: وصلى عليها العباس، ونزل في حفرتها هو وعلي والفضل، قال سعيد ابن عفير: ماتت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي بنت سبع وعشرين، قال الذهبي: وقيل أربعًا أو خمسًا وعشرين، وهو الأصح» .
رضي الله عن فاطمة، وجزاها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.