[عودة] الكلمة الثالثة والثلاثون

مقتطفات من سيرة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، إنه الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، أبو محمد، الإمام السيد، سبط رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وسيد شباب أهل الجنة، وأشبه خلق الله به في وجهه، ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فحنكه رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بريقه، وسماه حسنًا، وهو أكبر ولد أبويه، وقد كان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يحبه حبًّا شديدًا، وكان يعتنقه ويلاعبه، وربما جاء ورسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيقره على ذلك، ويطيل السجود من أجله، وربما صعد معه إلى المنبر .
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بريدة رضي اللَّه عنه قال: كان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يَخْطُبُنَا، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي اللَّه عنهما عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: ﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [التغابن: 15]، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا» .
وروى البخاري في صحيحه من حديث عقبة بن الحارث: أن أبا بكر صلى بهم العصر بعد وفاة رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بليال، ثم خرج هو وعلي يمشيان، فرأى الحسن يلعب مع الغلمان، فاحتمله على عنقه، فجعل يقول: بأبي شبيهٌ بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم لا شبيهٌ بعلي، قال: وعليٌّ يضحك .
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كنت مع رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في سوق من أسواق المدينة، فانصرف فانصرفت، فقال: «أَيْنَ لُكَعُ - ثَلاَثًا - ادْعُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ»، فقام الحسن بن علي يمشي وفي عنقه السخاب ، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم بِيَدِهِ هَكَذَا، فَقَالَ الحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ» . قال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: «فما كان أحد أحب إلي من الحسن بن علي بعدما قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ما قال».
وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي اللَّه عنهما وسأله عن المحرم قال شعبة أحسبه يقتل الذباب؟ فقال أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا» .
قال ابن حجر رحمه اللَّه: «شبههما بذلك؛ لأن الولد يشم ويقبل ، وفي رواية الطبراني في المعجم الكبير من طريق أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه قال: دخلت على رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم والحسن والحسين يلعبان بين يديه وفي حجره، فقلت: أتحبهما يا رسول الله؟ قال: «وَكَيْفَ لا أُحِبُّهُمَا وَهُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا أَشُمُّهُمَا»» .
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى قال: «سمعت الحسن يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولِّي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين – :أي عمرو! إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد الرحمٰن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه، فتكلما وقالا له فطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئًا إلا قالا: نحن لك به، فصالحه، فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» . فلما ولي لم يُهرق في خلافته محجمة من دم. قال ابن كثير رحمه اللَّه: «الحسن ابن علي أحد الخلفاء الراشدين، والدليل على ذلك الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة من طرق عن سفينة رضي اللَّه عنه مولى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا» . وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من أكبر دلائل النبوة.
وقد مدحه رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم على صنيعة هذا، وهو تركه الدنيا الفانية، ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء هذه الأمة، فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية، حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد» . أ.هـ
وكان أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه يجل الحسن ويعظمه، ويكرمه، ويحبه، ويتفداه، وكذلك عمر بن الخطاب، ولذلك لما تولى عمر الخلافة وعمل الديوان فرض للحسن والحسين من أهل بدر في خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما، وقد كان الحسن بن علي يوم الدار مع عثمان بن عفان وهو محصور في بيته ومعه السيف متقلدًا به يجاحف عن عثمان، فخشي عثمان عليه، فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبًا لقلب علي، وخوفًا عليهم ﮋ.
وكان علي يكرم ابنه الحسن إكرامًا زائدًا، ويعظمه ويجله، وقد قال له يومًا: يا بني، ألا تخطب حتى أسمعك، فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبًا، وعلي يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة، فلما انصرف جعل علي يقول: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)﴾ [آل عمران: 34 ].
وقد كان ابن عباس رضي اللَّه عنهما يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من نعم الله عليه، وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما رضي اللَّه عنهما وأرضاهما.
وكان ابن الزبير يقول: «والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي».
ومن أقواله رضي اللَّه عنه أنه قال لبنيه وبني أخيه: «تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم، وتكونون كبارهم غدًا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب» .
ولما قيل له أن الشيعة تزعم أن عليًّا مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله! ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه ولا اقتسمنا ماله، ولما تنازل عن الخلافة لمعاوية ابن أبي سفيان، قال له أصحابه: يا عار المؤمنين، فقال: العار خير من النار، وقال له آخر: يا مذل المؤمنين، فقال: لا ولكن كرهت أن أقتلكم على الملك.
قال أبو عمر ابن عبد البر: «وروينا من وجوه أن الحسن لما احتضر قال للحسين: يا أخي! إن أباك لما قُبض رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم استشرف لهذا الأمر، فصرفه الله عنه، فلما احتضر أبو بكر تشرف أيضًا لها، فصُرفت عنه إلى عمر، فلما احتضر عمر، جعلها شورى – أبي أحدهم – فلم يشك أنها لا تعدوه، فصُرفت عنه إلى عثمان، فلما قُتل عثمان بويع، ثم نوزع حتى جرد السيف، وطلبها فما صفا له شيء منها، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا – أهل البيت – النبوة والخلافة، فلا أعرفن ما استخفك سفهاء أهل الكوفة فأخرجوك، وقد كنت طلبت إلى عائشة أن أُدفن في حجرتها، فقالت: نعم، وإني لا أدري لعل ذلك كان منها حياءً، فإذا ما مت، فاطلب ذلك إليها، وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا، فادفني في البقيع، فلما مات قالت عائشة: نعم وكرامة، فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يُدفن هناك أبدًا؛ منعوا عثمان من دفنه في المقبرة، ويريدون دفن حسن في بيت عائشة، فلبس الحسين ومن معه السلاح، واستلأم مروان أيضًا في الحديد، ثم قام في إطفاء الفتنة أبو هريرة» .
قال الذهبي: «أعاذنا الله من الفتن، ورضي عن جميع الصحابة، فترض عنهم يا شيعي تُفلح، ولا تدخل بينهم، فالله حكم عدل، يفعل فيهم سابق علمه، ورحمته وسعت كل شيء، وهو القائل: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)﴾ [الأنبياء: 23 ]، فنسأل الله أن يعفو عنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت آمين.
فبنو الحسن هم: الحسن، وزيد، وطلحة، والقاسم، وأبو بكر، وعبد الله، فقُتلوا بكربلاء مع عمهم الشهيد، وعمرو، وعبد الرحمٰن، والحسين، ومحمد، ويعقوب، وإسماعيل، فهؤلاء الذكور من أولاد السيد الحسن، ولم يُعقب منهم سوى الرجلين الأولين، الحسن وزيد، فلحسن خمسة أولاد أعقبوا، ولزيد ابن وهو الحسن بن زيد، فلا عقب له إلا منه، ولي إمرة المدينة، وهو والد الست نفيسة، والقاسم، وإسماعيل، وعبد الله، وإبراهيم، وزيد، وإسحاق، وعليﮋ» .
ويقال إنه مات مسمومًا، وساق ابن سعد بسنده إلى عمير ابن إسحاق قال: «دخلت أنا وصاحب لي على الحسن بن علي فقال: لقد لفظت طائفة من كبدي، وإني قد سقيت السم مرارًا فلم أُسق مثل هذا، فأتاه الحسين بن علي فسأله من سقاه، فأبى أن يخبره» .
قال أبو نعيم: لما اشتد بالحسن بن علي الوجع جزع، فدخل عليه رجل فقال له: يا أبا محمد ما هذا الجزع؟ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك حتى تقدم على أبويك علي وفاطمة، وعلى جديك النبي صلى اللَّه عليه وسلم وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب. قال: فسرى عنه. وفى رواية أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخي، إنى أدخل فى أمر من أمر الله لم أدخل فى مثله، وأرى خلقًا من خلق الله لم أر مثله قط. قال: فبكى الحسين رضي اللَّه عنهما.
وقد اجتمع الناس لجنازته، حتى ما كان البقيع يسع أحدًا من الزحام.
قال ابن علية عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: «توفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين، وكذا قال غير واحد.
قال ابن كثير رحمه اللَّه: وهو أصح، والمشهور أنه مات سنة تسع وأربعين – كما ذكرنا– وقال آخرون: مات سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين».
رضي الله عن الحسن وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.