[عودة] الكلمة الواحدة والثلاثون


حقوق العمال والتحذير من ظلمهم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فمن الذنوب العظيمة التي حرمها الله على عباده، ورتب عليها العقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة، الظلم، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾ [إبراهيم: 42 ]، وقال تعالى: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)﴾ [النمل: 52 ].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» ، وفي الصحيحين من حديث جابر رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...» .
ومن أنواع الظلم: ظلم العمال الذي سيكون حديثنا في هذا اليوم، وله صور كثيرة، منها تكليفهم بالعمل فوق الساعات التي تم الاتفاق عليها، أو تكليفهم من العمل ما لا يطيقون في أي مهنة كانت، أو تأخير رواتبهم والمماطلة في ذلك، أو عدم صرفها لهم.
ومنها محاولة بخس حقوقهم، وذلك أن يكتب الكفيل عقدًا بينه وبين العامل، ثم إذا حضر العامل حاول التخلص من هذا العقد ليجعل مرتبه أقل مما اتفق عليه، فيضطر هذا المسكين الذي بذل قصارى جهده ليصل إلى العمل أن يرضخ تحت هذا الضغط السيئ، وهذا من الظلم الذي حرمه الله على العباد.
وإن من الأمانة، الوفاء بالعقود، فعلى كل من العامل وصاحب العمل أن يفيا بما تعاقدا عليه والتزما به ما دام ذلك موافقًا للشريعة الإسلامية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ ﴾ [المائدة: 1 ]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)﴾ [المؤمنون: 8 ].
فرب العمل يلتزم بالأجرة، ونوع العمل ومقداره وزمنه، حسب ما تم الاتفاق عليه، والعامل يلتزم بالقيام بما وُكل إليه على أحسن وجه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» .
وروى البخاري ومسلم من حديث المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر رضي اللَّه عنه بالربذة وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلًا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» .
وتقصير صاحب العمل لا يسوغ للعامل أن يخل بأمانة العمل، أو يسرق، أو يهرب، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» .
وينبغي للمؤمن أن يتحلل من مظالم الآخرين قبل يوم القيامة، حيث لا درهم ولا دينار، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» .
لقد حث النبي صلى اللَّه عليه وسلم على حسن التعامل مع الأجراء والعمال والتلطف معهم وعدم إيذائهم بأي حال من الأحوال، فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري رضي اللَّه عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي:«اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فإذا هو يقول: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلَام»ِ. فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا . وفي رواية لمسلم: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ» .
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ - فَقَالَ الأَوَّلَ وَالثَّانِي- ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» .
وسيأتي إن شاء الله كلمة عن واجبات العمال، والتحذير مما يفعله بعضهم من ظلم وأذى لكفلائهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.