[عودة] الكلمة الثالثة والعشرون
شرح حديث: حفت الجنة بالمكاره
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
روى الإمامان البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» . وفي رواية البخاري: «حُجِبَتِ» . قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وفصيحه، وجوامعه التي أوتيها صلى اللَّه عليه وسلم في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها. ومعناه: لا يوصل إلى الجنة إلا باجتياز المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو والحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات.. ونحو ذلك.
وأما الشهوات التي حفت النار بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة، مثل الظلم وقتل النفس المعصومة وتعاطي المخدرات، والمسكرات، وارتكاب الفواحش وأكل الربا والغيبة والنميمة والاستماع إلى الملاهي.. ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها مخافة أن تجر إلى المحرمات، وما تورثه من قساوة القلوب والانشغال عن الطاعات .
وقد ورد إيضاح ما سبق بما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه رفعه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ،، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» .
فمن المكاره التي حفت بها الجنة ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» .
فقد جمع رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في هذا الحديث ثلاثًا من الطاعات:
1- إسباغ الوضوء على المكاره كبرودته في الشتاء القارس، أو قِلَّته أو نحو ذلك.
2- الترغيب في كثرة الخطا إلى المساجد، ويقع ذلك في حال بُعد المسجد، وتكرار الذهاب إليه في الظلم والحر والبرد والخوف وغيره.
3- انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، فإن المؤمن في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا» .
ومنها: الجهاد في سبيل الله، فإنه مكروه إلى النفوس، وهي تحب الحياة، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾ [البقرة: 216 ].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه اللَّه: «وأما الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، فإنهم لا يُسألون لظهور صدق إيمانهم بجهادهم، قال الله تعالى: ﴿۞ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ [التوبة: 111 ]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾ [آل عمران: 169 ] .
ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه شاق على النفوس، ويتعرض صاحبه غالبًا للأذى، ولكنه طريق إلى الجنة، ونجاة من العذاب، قال تعالى عن لقمان وهو يوصي ابنه فيقول: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾ [لقمان: 17 ].
ومنها: بذل الأموال وإنفاقها في سبل الخير مع حب النفوس لها إيثارًا لمرضاة الله ورغبة في جنته، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾ [آل عمران: 92] والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ومن الأمثلة على أن من آثر الشهوات المحرمة فقد هتك حجاب النار ما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ» .
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخُبْثَ» .
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «لما عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقومٍ لهُمْ أَظْفَارٌ من نُحاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وصُدُورَهُمْ، فقُلْتُ: مَنْ هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قال: هؤلاءِ الذينَ يأكلونَ لُحُومَ الناسِ، ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ» .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»
ويعم ذلك قول الباري سبحانه: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20) ﴾ [الأحقاف: 20].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.