[عودة] الكلمة الثانية والعشرون
تأملات في قوله تعالى:
﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)﴾ [الإسراء: 74 ].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) ﴾ [ص: 29 ].
وعملًا بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آيات من كتاب الله تعالى، ونتدبر ما فيها من العظات والحكم، قال تعالى: ﴿ وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾ [الإسراء: 73-75].
قال الشيخ عبد الرحمٰن بن سعدي: «يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى اللَّه عليه وسلم وحفظه له من أعدائه الحريصين على فتنته بكل طريق، فقال: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)﴾ أي: قد كادوا لك أمرًا لم يدركوه، وتحيلوا لك على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك، فتجيء بما يوافق أهواءهم، وتدع ما أنزل الله إليك وإذا لو فعلت ما يهوون لاتخذوك خليلًا أي حبيبًا أعز عليهم من أحبابهم لما جبلك الله عليه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب المحببة للقريب والبعيد، والصديق والعدو، ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة إلا للحق الذي جئت به، لا لذاتك، كما قال تعالى: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)﴾ [الأنعام: 33].
ومع هذا ﴿ وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ على الحق، وامتننا عليك بعدم الإجابة لداعيهم ﴿ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ﴾ بما يهوون ﴿ لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ أي لأصبناك بعذاب مضاعف في الدنيا والآخرة، وذلك لكمال نعمة الله عليك، وكمال معرفتك ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ ينقذك مما يحل بك من العذاب، ولكن الله تعالى عصمك من أسباب الشر، ومن الشر، فثبتك وهداك الصراط المستقيم، ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه فله عليك أتم نعمة، وأبلغ منحة .
قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: «كان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم معصومًا، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه» .
ومن فوائد الآيات الكريمات:
1-تذكير الله لرسوله صلى اللَّه عليه وسلم بمنته عليه، وعصمته من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أن يتفطنوا الإنعام عليهم عند وجود أسباب الشر بالعصمة منه، والثبات على الإيمان، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾ [النساء: 113].
2-أنه بحسب علو مرتبة العبد، وتواتر النعم عليه من الله يعظم إثمه، ويتضاعف جرمه إذا فعل ما يُلام عليه؛ لأن الله ذكر رسوله لو فعل – وحاشاه من ذلك – بقوله: ﴿إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) ﴾ [الحاقة: 44-46]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)﴾ [الأحزاب: 30].
قال الشاعر:
وََكَبائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغائِرُ
وصَغائِرُ الرَّجُلِ الكَبِيرِ كَبائِرُ
2-أنه ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه الثبات على دينه دائمًا وأبدًا.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يكثر يقول:«يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمٰنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» .
4-أن قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)﴾ أن هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى اللَّه عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار، فضلًا عن نفس الركون .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.