[عودة] الكلمة السادسة عشرة

الرقى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فمن الأدوية الإلهية التي جاء الشرع بها الرقى، والمقصود بالرقى القراءة على المريض ويسميها العوام العزيمة، روى مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي اللَّه عنه. قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» .
والرقية نوعان: مشروع وممنوع.
أما المشروع: فما كان بالقرآن، وأسماء الله وصفاته، ودعائه، والاستعاذة به وحده لا شريك له، ففي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: رخص رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في الرقية من العين، والحمة ، والنملة .
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي اللَّه عنهما قال: رخص النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء بنت عميسﭫ: «مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ»، قَالَتْ: لَا، وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: «ارْقِيهِمْ»، قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «ارْقِيهِمْ» .
وروى البخاري ومسلم من حديث أم سلمةﭫ زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قال لجارية في بيتها وقد رأى بوجهها سفعة: «بِهَا نَظْرَةٌ، فَاسْتَرْقُوا لَهَا» يَعْنِي بِوَجْهِهَا صُفْرَةً .
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللَّه عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى اللَّه عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنُ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى اللَّه عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» .
وهذه الرقية المشروعة لها صفات:
فمن ذلك النفث على المريض، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه المُخرَّج في الصحيحين: فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: ﴿ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﴾[الفاتحة: 1] .
ومنها النفث في اليدين ومسح بدن المصاب، فروى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ: «بِمُعَوِّذَاتٍ» .
ومنها وضع الإصبع بالريق، ووضعها بالتراب ليعلق بها شيء منه ثم وضعها على الجرح ونحوه، فروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة ﭫ: «أَنَّ رَسُولَ الله صلى اللَّه عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا: «بِاسْمِ اللَّهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» .
أما قوله صلى اللَّه عليه وسلم: «بِرِيقَةِ بَعْضِنَا»:
قال ابن حجر: رحمه اللَّه: يدل ذلك أنه كان يتفل عند الرقية، قال النووي: معنى الحديث أنه كان يأخذ من ريق نفسه على أصبعه بالسبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح.
قال القرطبي رحمه اللَّه: ووضع النبي صلى اللَّه عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية، ثم قال: وزعم علماؤنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها، قال: وقال في الريق إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع.
ومنها وضع اليد على موضع الألم، فروى مسلم في صحيحه من حديث عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رضي اللَّه عنه، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ الله صلى اللَّه عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى اللَّه عليه وسلم: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» .
أما السور التي وردت قراءتها، فهي: الفاتحة، والمعوذتين، والإخلاص، وكل القرآن شفاء فيقرأ منه، وكذلك يدعو الراقي بما شاء، ولا سيما الوارد، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنهما قالت: كَانَ رَسُولُ الله صلى اللَّه عليه وسلم، إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أن جبريل أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يَا مُحَمَّدُ! اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: «بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهَُّ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ .
أما الرقية الممنوعة: فهي ما كان فيها شرك، كتعويذ المريض بذكر أسماء الجن والصالحين، وبما لا يفهم معناه خشية أن يكون شركًا، لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الحديث السابق: «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» .
قال الخطابي رحمه اللَّه: «وكان عليه السلام قد رقى ورُقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرًا، أو قولًا يدخله الشرك، قال: ويحتمل أن يكون الذي يكره ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم» .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: «كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، فضلًا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية، فأما جعل الألفاظ العجمية شعارًا فليس من الإسلام» .
وقال السيوطي رحمه اللَّه: «قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، وبما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى» .
وأما أخذ الأجرة على الرقية فلا حرج في ذلك، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللَّه عليه وسلم كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّه عليه وسلم، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى اللَّه عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! واللهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟» ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا مِنْهُمْ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ» .
قال النووي رحمه اللَّه: «هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية، ونص عليه أحمد» .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: «لا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية، ونص عليه أحمد» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.