[عودة] الكلمة الحادية عشر
المساحة في أخلاق الناس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فإن من أفضل الأعمال التي دعا إليها الشرع ورغب فيها حسن الخلق، فهو من أعظم مواهب الله لعباده، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ [القلم: 4 ]، وقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83 ].
والمقصود بأخلاق الناس، الأخلاق الفاضلة، مثل المروءة، والحياء، والصدق، والوفاء، والكرم، والشجاعة.. وغيرها من الأخلاق الكريمة التي دعا إليها الإسلام ورغب فيها.
فمن المعلوم أن الناس يتفاوتون في هذه الأخلاق، فمنهم من أنعم الله عليه بأن جعله في المرتبة العليا منها، ومنهم من قصر عن ذلك إلى أدنى المراتب، وما بين ذلك درجات متفاوتة، وهذا التفاوت في الدرجات هو المراد، وهو معنى المساحة المقصود في عنوان هذه الكلمة، ولي هنا وقفات:
الوقفة الأولى:
من المتفق عليه الذي لا خلاف فيه من أحد أنه كلما نال المرء الدرجة العليا من هذه الأخلاق كان أفضل ممن دونه بلا شك، وعليه فإن السعي في تحصيلها وبذل الجهد في الحصول إلى المراتب العليا منها أمر مطلوب شرعًا وعقلًا.
قال تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، وقال ک: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ) ﴾ [الواقعة: 10-11 ]، وقال تعالى: ﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ ﴾ [الأعراف: 145].
وقال صلى اللَّه عليه وسلم لأصحابه كما روى الطبراني في الكبير من حديث الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا» أي: الحقير الردي منها .
الوقفة الثانية: هل يمكن الوصول إلى أعلى المراتب
الجواب: نعم، ينال ذلك بالمجاهدة وشحذ الهمة من بعد طلب التوفيق من الله، والاستعانة به سبحانه، قال صلى اللَّه عليه وسلم: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ» ، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ،وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ...» الحديث .
وقد اختار الله من أنبيائه ورسله جماعة منهم سماهم أولي العزم، وذلك لبلوغهم أعلى المراتب، وأمر نبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلم أن يجتهد في بلوغ مراتبهم ليكون منهم، فقال ک: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]. وقد فعل صلى اللَّه عليه وسلم ما أمره به ربه حتى صار صلى اللَّه عليه وسلم أفضلهم وسيدهم وأكرمهم على الله.
روى البخاري في تاريخه الكبير أن قريشًا أتت إلى أبي طالب عم النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا أبا طالب، أرأيت محمد يؤذينا في نادينا، وفي مسجدنا، فانهه عن أذانا، فقال: يا عقيل ائتني بمحمد، فذهبت فأتيته به، فقال: يا ابن أخي! إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم، وفي مسجدهم، فانته عن ذلك، قال: فلحظ رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ببصره – وفي رواية: فحلق رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم ببصره إلى السماء – فقال: «مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَرُدَّ ذَلِكَ مِنكُم عَلَى أَن تُشعِلُوا مِنهَا شُعلَةً –يعني الشمس–» قال: فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا .
وروى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده من حديث المسور بن مخرمة رضي اللَّه عنه ومروان بن الحكم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال في صلح الحديبية: «يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؟ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإسلام وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ وَاللَّهِ إِنِّي لا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ» .
الوقفة الثالثة: بعض الفوائد المراد الحصول عليها من هذه الكلمة:
1- شحذ الهمم للوصول إلى أعلى المراتب والدرجات في الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، قال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)﴾ [الحديد: 10].
قال المتنبي:
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئًا
كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ كنقص القادرين على التمام
وقال أيضًا:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ
كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
2- أن الوصول إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة يحتاج إلى صبر ومجاهدة وتضحية وبذل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69 ]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» .
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللَّه عنه قال: «غاب عمي أنس بن النضر رضي اللَّه عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللَّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ﴾ [الأحزاب: 23]» .
3- معرفة الإنسان مدى مساحته من هذه الأخلاق يعرِّفه قدر نفسه، ومن عرف قدر نفسه استطاع أن يضعها في المكان اللائق بها.
4- بمعرفة المساحة في أخلاق الناس يستطيع المرء أن يختار من يصاحب ومن يجالس ومن يشارك، سواء كان ذلك مع نفسه أو في حال ربط الآخرين بعضهم ببعض، كالزواج ونحوه، ويكون ما قدره في هذه الأمور أقرب إلى الصواب وأنجح للحاجة وأسلم للعافية .
الوقفة الرابعة:
معرفة المساحة في أخلاق الناس تشتد الحاجة إليها ويعظم الانتفاع بها في أحوال كثيرة، منها:
1- الزواج، فمن الأمور التي يتوقع بمعرفتها تآلف الزوجين معرفة المساحة في أخلاق كل منهما، فإذا كانت المساحة في أخلاق كل منهما متقاربة فذلك أحرى أن يؤدم بينهما، بخلاف ما إذا كان التفاوت بينهما كبيرًا، ولهذا أجاز الفقهاء شروطًا تتعلق بهذه المسألة. فعلى سبيل المثال يجوز للمرأة التي تعيش في بلاد حارة أن تشترط على زوجها أن لاينقلها إلى بلاد باردة، ومن تعيش في الحاضرة أن لا ينقلها إلى البادية وكذلك العكس.
وينصح الناصحون بتحري التآلف بين الزوجين، وذلك أن يكون في طبيعة كل منهما وما نشأ عليه من عادات تقارب شديد، فذلك أدعى إلى تقليل خصال التنافر أو عدمها.
2- الأمير والوزير وكل من كلف بإدارة أشخاص قلوا أو كثروا فإن معرفته بقدر المساحات في أخلاقهم يجعله أقدر على حسم الإدارة، وبالتالي حصول النتائج الجيدة؛ فإنه لمعرفته ذلك يضم الشبيه إلى الشبيه ويختار لكل مهمة من تتحدد فيها وجهتهم وتتكامل فيها قدراتهم. فإذا كانت المهنة تحتاج إلى الشجاعة فإنه لايختار إلى المجموعة المكلفة بها قائدًا جبانًا، وإن كان جميع أفرادها من الشجعان، وإن كانت تحتاج إلى التأني والتروي فإنه لايحتاج لقيادتها رجلًا متهورًا وإن كان شجاعًا، وقس على ذلك.
3- الرفقة والصحبة والمجالسة، فإنه لايؤذن فيها بوجود من كانت له أخلاق ضيقة أو سيئة، وهو في نفسه قوي التأثير، فإنه ينتج عن ذلك فساد وضرر كبير.
4- التعامل مع الآخرين: ولكن على المسلم أن يتقي الله فلا يعمل إلا ما يرضيه، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن الشخص إذا عرف مقدار المساحات في أخلاق شخص ما فإنه بكلمة أو تصرف يسير يحصل منه على ما يريد، وفي صلح الحديبية لما أرسلت قريش رجلًا من كنانة قال: دعوني آتيه فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ»، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قال: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ .
قال بعضهم: ما مال أحد بهواه إلى شيء فكاده عدوه من قبل ذلك الشيء إلا تمكن منه.
5- في حدود الشخص نفسه يحصل له النجاح فتقل لديه الأخطاء التي يأسف عليها لاسيما فيما يتعلق منها بالآخرين، فعلى سبيل المثال: لو أراد شخص أن يصطحب معه آخر إلى بلاد شديدة البرودة فإنه لاينتفع بهذا الصاحب إلا حيث تكون المساحات لديه في تحمل البرد الشديد واسعة، ولو احتاج أن يشاركه آخر في عمل شاق فإنه لن ينتفع بهذا الشريك إلا بحيث يكون مساحات الصبر وطول النفس واسعة غير ضيقة ومحدودة.
6- بل أن الشخص نفسه يجب عليه أن يعرف مقدار المساحات التي يملكها في أخلاقه، حتى يضع نفسه في المكان اللائق به، فإنه إن جهل ذلك أوقع نفسه في مضائق قد يصعب خروجه منها. واسمع إلى توجيه الحكيم صلى اللَّه عليه وسلم وهو يقول لأبي ذر: «إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.