[عودة] الكلمة الرابعة
قصة نبي الله صالح عليه السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فمن قصص القرآن الكريم التي ذكرها الله في كتابه قصة قوم صالح عليه السلام، وهم قبيلة مشهورة يقال لهم ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عابر بن أرم بن سام بن نوح، وكانوا عربًا من العاربة، يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وكانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنام كأولئك، فبعث الله فيهم رجلًا منهم وهو عبد الله ورسوله صالح بن عبيد بن ماسخ بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا الأصنام والأنداد ولا يشركوا به شيئًا، فآمنت به طائفة منهم، وكفر جمهورهم، ونالوا منه بالمقال والفعال وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) ﴾ [الأعراف: 73-79 ].
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)﴾ [الحجر: 80-84 ].
وقال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) ﴾ [الشعراء: 141-159].
والمقصود ذكر قصتهم وما كان من أمرهم، وكيف نجى الله نبيه صالحًاﮓ ومن آمن به، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم، وعُتوهم، ومخالفتهم رسولهم عليه السلام، وقد قدَّمنا أنهم كانوا عربًا، وكانوا بعد عادٍ، ولم يعتبروا بما كان من أمرهم؛ ولهذا قال لهم نبيهمﮓ: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)﴾ [الأعراف: 73-74 ].
أي إنما جعلكم خلفاء من بعدهم لتعتبروا بما كان من أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم، وأباح لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور، وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين، أي حاذقين في صنعتها وإتقانها وإحكامها، فقابِلُوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح والعبادة له وحده لا شريك له، وإياكم ومخالفته، والعدول عن طاعته؛ فإن عاقبة ذلك وخيمة، ولهذا وعظهم بقوله: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) ﴾ [ الشعراء:146-148] أي متراكم، كثير، حسن، بهي، ناضج ﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)﴾
[ الشعراء:149-152] . وقال لهم أيضًا: ﴿۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)﴾ [هود: 61 ]. أي هو الذي خلقكم فأنشأكم من الأرض، وجعلكم عُمَّارها، أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا سواه ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ [هود: 61 ]. أي أقلعوا عما أنتم فيه، وأقبلوا على عبادته، فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم ﴿ ۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) ﴾[هود: 61-62 ]. أي قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملًا قبل هذه المقالة؛ وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة للَّه وحده، وترك ما كنا نعبده من الأنداد، والعدول عن دين الآباء والأجداد، ولهذا قالوا: ﴿ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) ﴾ [هود: 62-63]. وهذا تلطف منه لهم في العبارة، ولين الجانب، وحُسن تأتٌ في الدعوة لهم إلى الخير،أي فما ظنكم إن كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم إليه؟ ماذا عذركم عند الله؟ وماذا يُخلصكم بين يديه، وأنتم تطلبون مني أن أترك دُعاءكم إلى طاعته؟ وأنا لا يمكنني هذا؛ لأنه واجب علي، ولو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يُجيرني منه، ولا ينصرني، فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له حتى يحكم الله بيني وبينكم، وقالوا له أيضًا ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)﴾ [الشعراء: 153] أي من المسحورين، يعنون: مسحورًا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة للَّه وحده، وخلع ما سواه من الأنداد، وهذا القول عليه الجمهور؛ أن المراد بالمسحرين المسحورون، وقيل: من المُسَحَّرين أي ممن له سحر – وهي الرِّئَةُ – كأنهم يقولون: إنما أنت بشر له سحر. والأول أظهر؛ لقولهم بعد هذا: ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾، وقولهم: ﴿ فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾. سألوه أن يأتيهم بخارقٍ يدل على صدق ما جاءهم به: ﴿ قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)﴾ [الشعراء: 155-156]، وقال: ﴿ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)﴾ [الأعراف: 73 ]، وقال: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ﴾ [الإسراء: 59 ].
وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يومًا في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح عليه السلام فدعاهم إلى الله تعالى وذكَّرهم وحذَّرهم ووعظهم وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة – وأشاروا إلى صخرةٍ هناك – ناقة من صفتها كيت وكيت – وذكروا أوصافًا سموها ونعتوها وتعنَّتوا فيها – وأن تكون عُشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا، فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أُرسلت به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مُصلَّاه، فصلى لله عز وجل ما قُدِّر له، ثم دعا ربه ک أن يُجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة كوماء، عُشراء، على الوجه الذي طلبوا، وعلى الصفة التي نعتوا، فلما عاينوها كذلك، رأوا أمرًا عظيمًا، ومنظرًا هائلًا، وقدرة باهرة، ودليلًا قاطعًا وبُرهانًا ساطعًا، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم، ولهذا قال: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾، أي: جحدوا بها ولم يتبعوا الحق بسببها - أي: أكثرهم.
ولهذا قال لهم صالح عليه السلام: ﴿ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾ أضافهاللَّه سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم؛ كقوله: بيت الله، وعبد الله. ﴿ لَكُمْ آيَةً﴾ أي: دليلًا على صدق ما جئتكم به ﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يومًا بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم، ويقال: إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم، ولهذا قال: ﴿ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ﴾ أي اختبارًا لهم، أيؤمنون بها، أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون: ﴿فَارْتَقِبْهُمْ ﴾ أي: انتظر ما يكون من أمرهم ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ على أذاهم، فسيأتيك الخبر على جَلية ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ﴾ [القمر: 27-28 ]. فلما طال عليهم الحال هذا، اجتمع ملؤهم، واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة؛ ليستريحوا منها، ويتوفر عليهم ماؤهم، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم، قال الله تعالى: ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)﴾ [الأعراف: 77 ]. وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم قُدار ابن سالف بن جُندع، وكان أحمر أزرق قصيرًا، وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم؛ فلهذا نُسب الفعل إلى جميعهم كلهم.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن زمعة رضي اللَّه عنه قال: خطب رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: «﴿ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴾ إِذِ انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ» . أي رئيس منيع، أي مطاع في قومه.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمار بن ياسر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «أَلَا أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ؟» فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتَّى تُبَلَّ مِنْهُ هَذِهِ» يَعْنِي لِحْيَتَهُ .
وقال تعالى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)﴾ [الأعراف: 77]. فجمعوا في كلامهم هذا بين كُفر بليغ من وجوهٍ؛ منها: أنهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الأكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية، ومنها: أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم، فاستحقوه من وجهين؛ أحدهما :الشرط عليهم في قوله: ﴿ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ وفي آية ﴿ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ والكل حق. والثاني: استعجالهم على ذلك. ومنها: أنهم كذَّبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه، وهم يعلمون ذلك علمًا جازمًا، ولكن حملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق، ووقوع العذاب بهم، قال الله تعالى: ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) ﴾ [هود: 65]. وذكروا أنهم لما عقروا الناقة، كان أول من شدَّ عليها قُدار بن سالف لعنه الله، فعرقبها، فسقطت إلى الأرض، ثم ابتدروها بأسيافهم يُقطعونها، فلما عاين ذلك سَقْبُها، وهو ولدها، شَرَد عنهم فَعَلا أعلى الجبل هناك، ورغا ثلاث مراتٍ؛ فلهذا قال لهم صالح: ﴿ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ﴾ أي غير يومهم ذلك، فلم يصدقوه أيضًا في هذا الوعد الأكيد، بل لما أمسوا همُّوا بقتله، وأرادوا فيما يزعمون أن يُلحقوه بالناقة ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي: لنكبسنه في داره مع أهله، فلنقتلنه، ثم نجحدن قتله، ونُنكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه؛ ولهذا قالوا: ﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾. قال الله تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)﴾ [النمل: 50-53 ]. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم، سلفًا وتعجيلًا قبل قومهم، وأصبحت ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النظرة، ووجوهم مُصفرة كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما أمسوا نادوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوههم محمرة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع، وهو يوم السبت، ووجوههم مسودة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى الأجل، فلما كان صبيحة يوم الأحد، تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة، لا يدرون كيف يُفعل بهم، ولا من أي جهة يأتيهم العذاب، فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وحُقت الحقائق ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ جُثثًا لا أرواح فيها ولا حراك بها، قالوا: ولم يبق منهم أحدٌ إلا جارية كانت مقعدة، واسمها: كلبة بنت السلق، ويقال لها: الزُّرَيْعَةُ، وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام، فلما رأت العذاب أُطلقت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حيًّا من العرب، فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها، واستسقتهم ماء، فلما شربت ماتت، قال الله تعالى: ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۗ ﴾ أي: لم يُقيموا فيها في سعة ورزق وغَناءٍ ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾ أي: نادى عليهم لسان القدر بهذا.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر رضي اللَّه عنه قال: لما مر رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بالحجر، قال: «لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ – يَعْنِي النَّاقَةَ – تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَعَقَرُوهَا، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا، وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، فَأَهْمَدَ اللَّهُ مَنْ تَحْتَ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا، كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ» قِيلَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: «أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ» .
وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾. إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم، وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها، قائلًا لهم: ﴿ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)﴾ أي: جَهَدت في هدايتكم بكل ما أمكنني، وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي﴾ أي: لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده؛ فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم المستمر بكم، المتصل إلى الأبد، وليس لي فيكم حيلة ولا لي بالدفع عنكم يدان، والذي وجب عليَّ من أداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته وبذلته لكم، ولكن الله يفعل ما يريد، وهكذا خاطب النبي صلى اللَّه عليه وسلم أهل قَلِيب بدر بعد ثلاث ليالٍ، وقف عليهم، وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل، فقال: «يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» . فقال له عمر: يا رسول الله، تُخاطب أقوامًا قد جَيفوا؟ فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيبُون». ويقال: إن صالحًاﮓ انتقل إلى حرم الله، فأقام به حتى مات .
والحمد لله رب العال