[عودة] الكلمة السبعون: البيوع: قواعد وحكم وفوائد (2)
الكلمة السبعون
البيوع: قواعد وحكم وفوائد (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
فاستكمالاً للحديث السابق عن البيع وقواعده وحكمه وفوائده، فإنه ينبغي للمسلم أن يدعو الله دائمًا أن يبارك له في بيعه وشرائه وسائر أموره، وأن يحرص على الأسباب التي تستجلب بها البركة في البيع، ومنها:
تقوى اللَّه: فما اتقى الله امرؤ في أي أمر من أموره إلا بارك الله له فيه، ورزقه من حيث لا يحتسب، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)﴾ [الأعراف:96]
ومن علامات التقوى، ألا يقدم الإنسان على أي تعامل سواء كان بيعًا أو شراءً، أو غير ذلك إلا بعد معرفة حكم الشرع فيه، وسؤال أهل العلم عما يحل وما يحرم، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» .
أخذ المال من طرق حلال: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبيﷺ قال: «فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقٍّ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» .
أخذ المال بسخاوة نفس: أي من غير شره ولا إلحاح في المسألة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حكيم بن حزام قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِﷺ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» .
قوله: سخاوة نفس: أي بغير سؤال، ولا إشراف، ولا تطلع، ولا طمع، فبين النبيﷺ أن قناعة المؤمن ورضاه بما قسم الله له من رزق وعدم سؤاله وتطلعه إلى ما عند الآخرين سبب عظيم من أسباب البركة ولو كان رزقه قليلاً، ويلحق بهذا إنفاق المال في وجوه البر، وإخراج الزكاة، وإعطاء التاجر من تحت يده من عمال حقوقهم.
الصدق في المعاملة عند البيع والشراء والشراكة: روى البخاري ومسلم من حديث حكيم بن حزام أن النبيﷺ قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» .
التبكير في التجارات: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» .
أما موانع البركة فهي:
المعاصي والذنوب: فكما تقدم أن التقوى من أعظم الأسباب التي تستجلب بها البركة في البيوع وغيره، فكذلك المعاصي لها أثر كبير في محق البركة وزوالها، قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾ ] الروم:41 ].
الحلف: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «الحَلِفُ منْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» .
الكذب والغش: وتقدم الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث حكيم بن حزام، أن النبيﷺ قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» .
أكل المال الحرام بشتى صوره وأشكاله: وأعظم ذلك الربا، فإنه لا بركة فيه ولا خير، قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ ]البقرة:276 ].
وفي الحديث: «...وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» . قال ابن حجررحمه الله فيه: «أن اكتساب المال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه، فيصير غير مبارك كما قال الله تعالى ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾» ، ويدخل في ذلك ما يبيعه التاجر مما يحتوي على مخالفات شرعية، أو عن طريق الحلف، أو الغش، أو الكذب، أو غيرها من طرق الحرام.
الحرص الشديد والرغبة في الدنيا: روى البخاري ومسلم من حديث حكيم بن حزام أن النبيﷺ قال: «يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» .
منع الزكاة: فإن الزكاة بركة للتاجر في بيعه وشرائه.
تطفيف المكيال والميزان: فإن هذا المال الذي يأتي من تطفيف الكيل والميزان مال حرام يمحق البركة، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾ ]المطففين:1-6].
عدم الرضى بالرزق: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحد بني سُليم -ولا أحسبه إلا قد رأى رسول اللهﷺ- قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» .
من صور البيوع المنهي عنها:
البيع والشراء بعد الأذان الثاني يوم الجمعة: لا يصح البيع ولا الشراء ممن تلزمه صلاة الجمعة بعد الأذان الثاني؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)﴾ [الجمعة:9 ]، فقد نهى الله تعالى عن البيع في هذا الوقت، والنهي يقتضي التحريم، وعدم صحة البيع.
بيع الأشياء لمن يستعين بها على معصية اللَّه: أو يستخدمها في المحرمات، فلا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، ولا الأواني لمن يشرب بها الخمر، ولا بيع السلاح في وقت الفتنة بين المسلمين، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة:2].
بيع المسلم على بيع أخيه: مثاله أن يقول لمن اشترى شيئًا بعشرة: أنا أبيعك مثله بأرخص منه، أو أبيعك أحسن منه بنفس الثمن؛ لحديث ابن عمر ﮏ قال: قال رسول اللهﷺ: «لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» .
الشراء على الشراء: مثاله أن يقول لمن باع شيئًا: افسخ البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر، بعد أن اتفق البائع والمشتري على الثمن، وهذه الصورة داخلة في النهي الوارد في الحديث السابق.
بيع العِينة: وصورته أن يبيع شخص سلعة لآخر بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها منه البائع بثمن حاضر أقل، وفي نهاية الأجل يدفع المشتري الثمن الأول، كأن يبيع أرضًا بخمسين ألفًا يدفعها بعد سنة، ثم يشتريها البائع منه بأربعين ألفًا نقدًا، ويبقى في ذمته الخمسون ألفًا يدفعها المشتري على رأس السنة، وسُميت عِينة؛ لأن المشتري يأخذ مكان السلعة عينًا، أي: نقدًا حاضرًا. وحرم هذا البيع لأنه حيلة يتوصل بها إلى الربا، فعن ابن عمر ﮏ قال: قال رسول اللهﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» .
بيع المبيع قبل قبضه: مثاله أن يشتري سلعة من شخص، ثم يبيعها قبل أن يقبضها ويحوزها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» ، وروى أبو داود في سننه من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ» ، فلا يجوز لمن اشترى شيئًا أن يبيعه حتى يقبضه قبضًا تامًّا.
تلقي الركبان: والمراد بهم القادمون لجلب سلعهم في البلد، فإذا تلقاهم، واشترى منهم، وتبين أنه قد غبنهم غبنًا فاحشًا، فلهم الخيار؛ لقول النبيﷺ: «لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» ، فنهى ﷺ عن تلقي الجلب خارج السوق الذي تُباع فيه السلع، وأمر أنه إذا أتى البائع السوق الذي تُعرف فيه قيم السلع، وعرف ذلك؛ فهو بالخيار بين أن يُمضي البيع أو يفسخ.
قال ابن القيمرحمه الله: «نهى عن ذلك؛ لما فيه من تغرير البائع؛ فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبيﷺ الخيار إذا دخل السوق» .
بيع النجش: فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ النَّجْشِ» ، والناجش هو: الذي يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع ثمنها على المشتري، لما في ذلك من تغرير المشتري وخديعته؛ فهو في معنى الغش.
ومن صور النجش المحرم: أن يقول صاحب السلعة: أُعطيت بها كذا وكذا، وهو كاذب، أو يقول: اشتريتها بكذا، وهو كاذب .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.