[عودة] الكلمة الخامسة والستون: حمل الجنازة واتباعها، والمسائل المتعلقة بذلك
الكلمة الخامسة والستون
حمل الجنازة واتباعها، والمسائل المتعلقة بذلك
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
حمل الجنازة واتباعها فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وهو من حقوق المسلم على المسلم، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ»، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» .
وروى البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِﷺ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ» .
واتباع الجنائز على أمرين، وكل منهما فعل رسول اللَّهﷺ:
يصلي عليها ثم ينصرف، وله قيراط من الأجر لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول اللهﷺ يقول: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِبِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» .
يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تُدفن وله قيراطان، للحديث السابق.
الفضل العظيم الوارد في اتباع الجنازة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
وهذا الفضل في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء لنهي النبيﷺ لهن عن اتباعها، وهو نهي تنزيه، فقد قالت أم عطيةﭫ: «كُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» . أما الصلاة على الميت فإنها مشروعة لهن كالرجال .
«يستحب للماشي مع الجنازة أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى، والفكر فيما يلقاه الميت وما يكون مصيره، وحاصل ما كان فيه، وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها، وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإن هذا وقت فكر وذكر، تقبح فيه الغفلة واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهي عنه في جميع الأحوال، فكيف في هذا الحال؟» .
ولا يجوز أن نتبع الجنائز بما يخالف الشريعة، قال الشيخ الألبانيرحمه الله: «وقد جاء النص فيها على أمرين: رفع الصوت بالبكاء واتباعها بالبخور، وذلك في قولهﷺ فيما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال: «لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ، وَلَا صَوْتٍ» . ويلحق بذلك رفع الصوت بالذكر أمام الجنازة لأنه بدعة، قال قيس بن عباد: «كان أصحاب رسول اللهﷺ يكرهون رفع الصوت عند الجنائز» ، ولأن فيه تشبهًا بالنصارى، فإنهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين، وأقبح من ذلك تشييعها بالعزف على الآلات الموسيقية أمامها عزفًا حزينًا كما يفعل في بعض البلاد الإسلامية تقليدًا للكفار، والله المستعان» .
قال النوويرحمه الله: «واعلم أن الصواب والمختار ما كان عليه السلف ﮋ من السكون في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك. والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره، وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترن بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل ابن عياض رحمه الله ما معناه: «الزم طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين».
وقد روينا في سنن البيهقي ما يقتضي ما قلته، يشير إلى قول قيس بن عباد: وأما ما يفعله الجهلة من القُراء على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضعه فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه وفسق من تمكن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القُراء والله المستعان» .
القيام للجنازة إذا مرت مشروع لما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبيﷺ قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ» .
وروى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: «مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ فَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الجِنَازَةَ َفَقُومُوا» . وفي رواية مسلم: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ» وفي رواية: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟» . وهذه الأحاديث وغيرها تدل على مشروعية القيام للجنازة إذا مرت لمن كان قاعدًا لأمر النبيﷺ ولفعله عليه الصلاة والسلام.
وروى مسلم في صحيحه من حديث علي قال: «رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا - يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ» . قال النووي بعد ما ذكر خلاف العلماء: «فيكون الأمر للندب والقعود بيانًا للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث- ولم يتعذر. والله أعلم .
ورجح الإمام ابن القيم ما ذهب إليه النووي في الجمع بين الأحاديث ، ورجح بعضهم النسخ لما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث علي بن أبي طالب قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجِنَازَةِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» .
قال الشيخ عبدالعزيز بن بازرحمه الله: «السنة لمن تبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع من أعناق الرجال على الأرض، وأما الانصراف فإن المشروع لمتبعها ألا ينصرف حتى توضع في القبر ويفرغ من دفنها، وهذا كله على سبيل الاستحباب» .
الإسراع بالجنازة من غير رمل مشروع، لما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» .
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مكروهة، مخالفة للسنة، ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب اليهود» .
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «المقصود بالإسراع بالجنازة – المشي – ويدخل ضمنًا الصلاة عليها وتغسيلها، والسرعة في تجهيزها، وظاهر الحديث يعم الجميع من حيث المعنى» .
يجوز المشي أمامها وخلفها، وعن يمينها ويسارها، على أن يكون قريبًا منها، إلا الراكب فيسير خلفها، لما رواه الإمام أحمد من حديث المغيرة بن شعبة قال: «الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَمَامَهَا، وَيَمِينِهَا، وَشِمَالَهَا قَرِيبًا، وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْعَافِيَةِ وَالرَّحْمَةِ» .
والأفضل أن يكون المشي خلفها، لما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث علي أنه قال: «إِنَّ فَضْلَ الْمَشْيِ خَلْفَهَا عَلَى بَيْنِ يَدَيْهَا، كَفَضْلِ صَلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى الْوَحْدَةِ» .
يجوز الركوب بشرط أن يسير وراءها لقولهﷺ: «الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ» . قال الشيخ الألبانيرحمه الله:«لكن الأفضل المشي لأنه المعهود عنهﷺ ولم يرد أنه ركب معها، بل قال ثوبان رضي الله عنه: إن رسول اللهﷺ أُتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب، فقيل له، فقال: «إِنَّ المَلَائِكَةَ كَانَتْ تَمْشِي فَلَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَلَمَّا ذَهَبُوا رَكِبْتُ» .
وأما الركوب بعد الانصراف عنها فجائز بدون كراهة، لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِفَرَسٍ مُعْرَوْرًى ، فَرَكِبَهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ، وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ ، وفي لفظ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ، ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ فَعَقَلَهُ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ، نَسْعَى خَلْفَهُ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ -أَوْ مُدَلًّى- فِي الْجَنَّةِ لِابْنِ الدَّحْدَاحِ- أَوْ قَالَ شُعْبَةُ: لِأَبِي الدَّحْدَاحِ» .
السنة حمل الجنازة على الأعناق إذا تيسر ذلك، ويجوز حملها على السيارة لبعد المسافة أو الحر الشديد، أو ما أشبه ذلك، لأن حملها على السيارة أو غيرها يفوت الغاية من حملها وتشييعها، وهي تذكر بالآخرة كما في حديث رسول اللهﷺ: «وَاتَّبِعُوا الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ» . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «والأفضل حملها على الأكتاف لما في ذلك من المباشرة بحمل الجنازة، ولأنه إذا مرت الجنازة بالناس في الأسواق عرفوا أنها جنازة ودعوا لها، ولأنه أبعد عن الفخر والأبهة، إلا أن يكون هناك حاجة أو ضرورة، فلا بأس أن تحمل على سيارة، مثل أن تكون أوقات أمطار، أو حر شديد، أو برد شديد، أو قلة المشيعين» .
استحب بعض أهل العلم تغطية نعش المرأة بما يسمى بالمكبة، وهي عبارة عن خشب أو جريد مثل القبة، فوقها ثوب، تكون فوق السرير.
قال ابن قدامة: «ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شيء من الخشب أو الجريد، مثل القبة، يترك فوقه ثوب ليكون أستر لها، وقد روى أن فاطمة بنت رسول اللهﷺ أول من صُنع لها ذلك بأمرها». وعللوا ذلك بأنه أستر للمرأة.
فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء، والبيهقي في السنن الكبرى من حديث أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول اللهﷺ قالت: «يَا أَسْمَاءُ إِنِّي قَدِ اسْتَقْبَحْتُ مَا يُصْنَعُ بِالنِّسَاءِ، إِنَّهُ يُطْرَحُ عَلَى الْمَرْأَةِ الثَّوْبُ فَيَصِفُهَا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَلَا أُرِيكِ شَيْئًا رَأَيْتُهُ بِالْحَبَشَةِ؟ فَدَعَتْ بِجَرَائِدَ رَطْبَةٍ فَحَنَّتْهَا، ثُمَّ طَرَحَتْ عَلَيْهَا ثَوْبًا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ تُعْرَفُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ، فَإِذَا مِتُّ أَنَا فَاغْسِلِينِي أَنْتِ وَعَلِيٌّ وَلاَ يَدْخُل عَلَيَّ أَحَدٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ غَسَّلَهَا عَلِيٌّ، وَأَسْمَاءُﮏ» .
قال الشيخ الألبانيرحمه الله: «فانظر إلى فاطمة بضعة النبيﷺ كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح». أهـ
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.