[عودة] الكلمة الواحدة والستون: الفتور أسبابه وعلاجه

الكلمة الواحدة والستون
الفتور أسبابه وعلاجه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد..
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاصﮏ أن النبيﷺ قال: «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» . وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالَأصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ» .
وفي هذين الحديثين حقائق في غاية الأهمية أخبرنا عنها المصطفىﷺ، وإليك البيان:
الحقيقة الأولى: إن لكل عابد شرة وحِدَّة، وهو النشاط في العبادة بصورة تدعو إلى الانتباه والإعجاب. وهو مشاهد في كثير من الناس، وخصوصًا الشباب، فإنه يرى منهم أول التزامهم نشاطًا شديدًا، وحرصًا ومثابرة على العبادات والطاعات، وحضور مجالس العلم والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.. وغير ذلك.
الحقيقة الثانية: أن هؤلاء العباد -أو ما يسمون في زماننا هذا الملتزمون، أو شباب الصحوة- يحدث لبعضهم بعد ذلك النشاط والقوة ضعفًا وكسلًا، وتهاونًا وفتورًا، وهم في ذلك على مراتب:
المرتبة الأولى: من سلكوا حال فتورهم طريق الاستقامة، وذلك بلزوم السنة، وتجنب البدعة، وأحاطوا أعمالهم في أنفسهم وفي دعوة غيرهم بالتسديد والمقاربة، وسلوك الطريق الوسط الذي لا غلو فيه، ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، ويعود السبب إلى توفيق الله لهم حال حدتهم وشرتهم إلى التمسك بأصول صحيحة ثابتة، إما كتب لأهل العلم من السلف الصالح وأئمة الهدى، أو طلب العلم على مشايخ وعلماء أهل فضل وسنة، أو رفقة صالحة قد هداهم الله إلى الصراط المستقيم بالحق يهدون وبه يعدلون، قالﷺ: «سدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا» .
قال أبو حاتمرحمه الله: «سددوا: يريد به كونوا مسددين، والتسديد لزوم طريقة النبيﷺ واتباع سنته، وقوله: وقاربوا: يريد به لا تحملوا على الأنفس من التشديد ما لا تطيقون، وأبشروا فإن لكم الجنة إذا لزمتم طريقتي في التسديد وقاربتم في الأعمال» .
2- المرتبة الثانية: من كان فتورهم ضعف في العبادة، وتقصير في العمل، وربما الوقوع في بعض الذنوب والمعاصي عن شهوة لا عن شبهة، فهؤلاء إذا وجدوا من يعظهم ويذكرهم فحري أن ينشطوا، ويقوى ضعفهم، ويقل تفريطهم.
3- المرتبة الثالثة: من كان فتورهم إلى بدع وضلالات اتباعًا للهوى وحبًّا للظهور والشهرة، والتعلق بالشبهات في استحلال المحرمات، وقد يتمادى بهم ذلك إلى الانقلاب على أعقابهم – نسأل الله العافية والسلامة –.
الحقيقة الثالثة: اشتمل هذا البيان منهﷺ على سبب هذا الداء وبيان دواؤه، وأن سببه هو عين دواؤه حين ترك ولم يعمل به، وينحصر ذلك في أمرين ذُكرا في الحديثين السابقين:
أولهما: ترك لزوم السنة ظاهرًا.
ثانيهما: ترك تجريد القلب بالإخلاص لله الإخلاص التام الذي لا يكون للنفس منه نصيب باطنًا.
مظاهر الفتور العائد إلى الانحراف:
أن العظة والتذكير لا يؤثر فيهم وذلك لقساوة حدثت لقلوبهم، وران أطبق عليها بما كانوا يكسبون.
حبهم للجدل والمراء ومعارضة الحق، وقد قالﷺ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» ثُمَّ تَلَا: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)﴾ [الزخرف:58] ، وفي التنزيل المبارك: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة:115].
تحليلهم لكثير مما كان حرامًا عندهم قبل نكوسهم، وكذلك العكس، وذلك بوقوعهم في الفتنة كما أخبر بذلك حذيفة رضي الله عنه حين سُئل: «كيف يعرف الرجل منا، هل أصابته الفتنة أم لا؟ فأجاب: إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر، فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا، فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته» .
تتبع زلات العلماء وجعلها منهج حياة مع الاستماتة في الدفاع عنها، وهم في كل ما تقدم لا تسهل عليهم التوبة، ويبغضون من يدعوهم إليها؛ لأنهم يرون أن في توبتهم إقرار واعتراف بما هم عليه من الضلال والزيغ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)﴾ [غافر:56].
الخاتمـة:
وأختم هذه الكلمة بتوجيه النصح إلى أهل العلم والدعاة إلى الله بأن يرشدوا من يدعونهم إلى لزوم الكتاب السنة، ومنهج السلف الصالح في فهم نصوصهما، والاقتداء بهم في الأعمال والأخلاق، والاجتهاد في إصلاح القلوب وتخليصها من الأهواء المضلة، والبدع المهلكة.
نسأل الله أن يهدينا إلى الحق، وأن يثبتنا عليه، وأن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.