[عودة] الكلمة السابعة والأربعون : غزوة الطائف (2)
الكلمة السابعة والأربعون
غزوة الطائف (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
فاستكمالًا للحديث عن غزوة الطائف، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلًا سأل رسول اللهﷺ، فأمر له رسول اللهﷺ بشاءٍ بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر.
قال أنس رضي الله عنه: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» .
ولما انتهت هذه الغزوة العظيمة، نادى رسول اللهﷺ صفوان بن أمية، وقال له: «إِنَّا قَدْ فَقَدْنَا مِنْ أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا ، فَهَلْ نَغْرَمُ لَكَ؟»، قال: لا يا رسول الله، لأن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ .
«لا تُوطَأُ الحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ»:
ولما فرق رسول اللهﷺ السبايا، نادى مناديه: «لا تُوطَأُ الحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» .
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أن رسول اللهﷺ يوم حنين، بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب رسول اللهﷺ تحرجوا من غشيانهم من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿۞ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ]النساء:24]، أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن .
شأن ذي الخويصرة التميمي:
ثم أتى رسول اللهﷺ رجل، هو ذو الخويصرة التميمي، واسمه حُرقُوصُ بن زهير السعدي، يعترض على قسمة الرسولﷺ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللهﮏ قال: أتى رجل رسول اللهﷺ بالجعرانة، منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول اللهﷺ يقبض منها، يعطي الناس، فقال: يا محمد! اعدل.
فقال رسول اللهﷺ: «وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلْ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلْ».
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله دعني فأقتل هذا المنافق، فقال رسول اللهﷺ: «مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ تَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» .
وفي رواية أخرى في مسند الإمام أحمد قال رسول اللهﷺ: «لَا، دَعُوهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلا يَجِدُ شَيْئًا، ثُمَّ فِي الْقَدَحِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الفَوْقِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ» .
عَتْبُ الأنصار وخطبة رسول اللَّهﷺ فيهم:
أعطى رسول اللهﷺ كل الناس من الغنائم إلا الأنصار ﮋ أجمعين، فوجدوا على رسول اللهﷺ في أنفسهم، وقال أحداثهم : يغفر الله لرسول اللهﷺ! يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم .
وفي رواية أخرى قالوا: إذا كانت الشدة فنحن نُدعى، وتُعطى الغنائم غيرنا ، وكثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول اللهﷺ قومه .
فانطلق سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار، فأتى رسول اللهﷺ، فدخل عليه، وقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، فقسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
فقال رسول اللهﷺ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟». قال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي . فقال رسول الله: «فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ».
فخرج سعد، فجمع الأنصار في قبة من أدم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار.
فأتاهم رسول اللهﷺ، فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَمُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟»، قالوا: بل الله ورسوله أَمَنُّ وأفضل، فقال رسول اللهﷺ: «أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟»، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله؟ ولله ولرسوله المن والفضل، فقال رسول اللهﷺ: « أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، وَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلا فَأَغْنَيْنَاكَ»، ثم قالﷺ: «أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا أَقْوَامًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَّلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، الأَنْصَارُ شِعَارٌ ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ ، اللَّهُمَّ ارحَمِ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ»، فبكى الأنصارﮋ حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا .
ترتيب عجيب:
قال الحافظ في الفتح: وقد رتب رسول اللهﷺ ما من الله عليهم على يده من النعم ترتيبًا بالغًا، فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازيها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة، وهي أعظم من نعمة المال؛ لأن الأموال تُبذل في تحصيلها، وقد لا تُحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع، فزال ذلك كله بالإسلام كما قال الله تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾]الأنفال:63] .
نذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر ﮏ قال: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول اللهﷺ وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف ، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام، فكيف ترى؟
فقال رسول اللهﷺ: «اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ يَوْمًا».
وقال: وكان رسول اللهﷺ قد أعطاه جارية من الخُمس، فلما أعتق رسول اللهﷺ سبايا الناس، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول اللهﷺ.
فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قالوا: أعتق رسول اللهﷺ سبايا الناس، فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها .
قدوم وفد هوازن:
وبعد أن قُسمت الغنائم قدم وفد هوازن على رسول اللهﷺ، وكانوا أربعة عشر رجلًا، ورأسهم: زهير بن صرد، فبايعوا رسول اللهﷺ على الإسلام، ثم قالوا: يا رسول الله! إنا أصلٌ وعشيرة، فمُن علينا، مَنَّ الله عليك، فإنه قد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، وقال زهير بن صرد، أحد بني سعد بن بكر : يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا مَلحْنَا الحارث بن أبي شمر ، أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين، ثم سألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم.
فقال رسول اللهﷺ: «مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيُ، وَإِمَّا الْمَالُ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ».
وكان رسول اللهﷺ أنظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول اللهﷺ غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقال رسول اللهﷺ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ، فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفع بِرَسُولِ اللَّهِﷺ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَبِالمُؤْمِنِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِﷺ فِي نِسَائِنَا وَأَبْنَائِنَا».
فلما صلى رسول اللهﷺ بالناس الظهر، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به رسول اللهﷺ، فقام رسول اللهﷺ في المسلمين، فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ»، ثم قال رسول اللهﷺ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ».
وقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول اللهﷺ، وقال عيينة بن حصن: أما ما كان لي ولبني فزارة، فلا، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم، فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم، فلا، فقالت الحيان: كذبت، بل هو لرسول اللهﷺ.
فقال رسول اللهﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَيْءِ، فَلَهُ عَلَيْنَا سِتَّةُ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ يُفِيئُهُ اللَّهُ عَلَيْنَا»، فرد الناس على هوازن جميع السبي .
إسلام مالك بن عوف النصري:
وقدم بعد ذلك مالك بن عوف رئيس هوازن فأسلم، وقد كان رسول اللهﷺ سأل وفد هوازن عن مالك بن عوف: ما فعل؟
فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف، فأمر رسول اللهﷺ بحبس أهله عند عمتهم أم عبد الله بن أبي أمية بمكة، وقد قال رسول اللهﷺ لوفد هوازن: «أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنَّهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ».
فلما أُخبر مالك بذلك، أمر براحلته فهُيئت له، ثم خرج من الطائف ليلًا، حتى أتى رسول اللهﷺ فأدركه بالجعرانة، وقيل: بمكة، فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه رسول اللهﷺ أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، ثم استعمله رسول الله على من أسلم من قومه، فكان يقاتل بهم ثقيفًا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.