[عودة] الكلمة السادسة والأربعون : غزوة الطائف (1)

الكلمة السادسة والأربعون
غزوة الطائف (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين ، وذلك أن معظم فلول هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع قائدهم مالك ابن عوف النصري، وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول اللهﷺ بعد فراغه من حنين، وذلك في شهر شوال سنة ثمانٍ للهجرة.
وكانت ثقيف لما انهزموا من حنين وأوطاس، تحصنوا بحصونهم المنيعة في الطائف.
طريق رسول اللَّهﷺ إلى الطائف وحصارها:
تحرك رسول اللهﷺ إلى الطائف، وقد جعل على مقدمته خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى نزل قريبًا من حصن الطائف، فضرب عسكره هناك، وفرض على أهلها الحصار ، وأشرفت ثقيف، وأقاموا يرمون المسلمين بالنبال والحجارة رميًا شديدًا، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراح، فاضطر رسول اللهﷺ أن يرتفع بعسكره إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكر هناك، وكان مع رسول اللهﷺ من نسائه أم سلمة ﭫ.
قصة المخنث:
فدخل رسول اللهﷺ على أم سلمةﭫ، وعندها أخوها عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، ومُخنث يدعى هيتا ، فسمعه رسول اللهﷺ وهو يقول لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: يا عبد الله! إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان ، فإنها تُقبل بأربع، وتدبر بثمان ، فقال رسول اللهﷺ: «لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ» .
قال الحافظ في الفتح: ويُستفاد منه حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، وهذا الحديث أصل في إبعاد من يُستراب به في أمر من الأمور .
رمي الرسولﷺ أهل الطائف بالمنجنيق:
ونصب رسول اللهﷺ المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، وهذا أول منجنيق يُرمى به في الإسلام، كما نثر رسول اللهﷺ الحسك حول الحصن.
ثم أخذ رسول اللهﷺ يحث أصحابهﮋ على الرمي، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي نجيح السلمي رضي الله عنه قال: حاصرنا مع النبيﷺ حصن الطائف، فسمعت رسول اللهﷺ يقول: «مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قال أبو نجيح رضي الله عنه: فبلغت يومئذ ستة عشر سهمًا .
ولما كان القتال تراشقًا بالسهام عن بعد، استخدم المسلمون «الدبابة» ؛ ليحموا بها أنفسهم من السهام، حتى يصلوا إلى الحصن، فعندما رأتهم ثقيف، ألقت عليهم قطعًا من حديد محماة بالنار، فأحرقت الدبابة فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبال، فقتلوا منهم رجالًا.
إسلام عبيد من الطائف:
ثم نادى منادي رسول اللهﷺ: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر! فنزل إليه ثلاثة وعشرون رجلًا، فيهم: نفيع بن مسروح، تسور حصن الطائف وتدلى ببكرة مستديرة، يُستقى عليها الماء، فكناه رسول اللهﷺ أبا بكرة، فأسلم هؤلاء العبيد، فأعتقهم رسول اللهﷺ، فلما أسلمت ثقيف بعد ذلك سألوا رسول اللهﷺ أن يرد إليهم أبا بكرة، فأبى رسول اللهﷺ عليهم، وقال: «هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ، وَطَلِيقُ رَسُولِهِ»، فكان مولى لرسول اللهﷺ .
رؤيا رسول اللَّهﷺ ورحيل المسلمين:
ذكر رسول اللهﷺ لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه رأى رؤيا، وهو محاصر ثقيفًا، فقال رسول اللهﷺ: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تُدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال رسول اللهﷺ: «وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ» .
ولما طال حصار الطائف واستعصى على المسلمين، ولم يؤذن لرسول اللهﷺ بفتح الطائف، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نَادِ فِي النَّاسِ إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فثقل ذلك على المسلمين واستنكروه، وقالوا: نذهب ولا نفتحه، فقال رسول اللهﷺ: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فغدوا فأصابهم جراح، فقالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال رسول اللهﷺ: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا، وَائْتِ بِهِمْ»، ثم قال رسول اللهﷺ: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدَاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول اللهﷺ يضحك .
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لرسول اللهﷺ، فأتى بثقيف مسلمين، قبل أن يرتحل رسول اللهﷺ من الجعرانة.
إسلام سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه:
غادر رسول اللهﷺ الطائف متوجهًا إلى الجعرانة، وفي الطريق لقيه سراقة بن مالك الجعشمي، فدخل في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونه بالرماح ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟
قال سراقة: فدنوت من رسول اللهﷺ وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة ، قال: فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله! هذا كتابك لي ، أنا سراقة بن مالك بن جعشم.
فقال رسول اللهﷺ: «يَوْمُ وَفَاءٍ، وَبِرٍّ، ادْنُهْ».
قال سراقة رضي الله عنه: فدنوت منه، فأسلمت، ثم تذكرت شيئًا أسأل رسول اللهﷺ عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله! الضالة من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قالﷺ: «نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ».
قال سراقة رضي الله عنه: ثم رجعت إلى قومي، فسقت إلى رسول اللهﷺ صدقتي .
قسمة الغنائم بالجعرانة:
ثم قدم رسول اللهﷺ الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فنزل بها، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن مسلمين، فيحرزوا ما أصيب منهم، فلما لم يجئه أحد أمر بتقسيم الغنائم.
البدء بالمؤلفة قلوبهم وهم سادات العرب:
أول من أعطى رسول اللهﷺ من الغنائم هم سادات العرب، يتألفهم إلى الإسلام، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة من الإبل .
وأعطى رسول اللهﷺ أبا سفيان بن الحارث ابن عمهﷺ مئة من الإبل، وأعطى رسول اللهﷺ الأقرع بن حابس التميمي مئة من الإبل، وأعطى رسول اللهﷺ عُيينة بن حصن الفزاري مئة من الإبل، وأعطى رسول اللهﷺ علقمة بن عُلاثة مئة من الإبل، وأعطى رسول اللهﷺ العباس بن مرداس دون ذلك، فأنشأ يقول:
أَتَجْعَلَ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ
ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالَأقْرَعِ
فَمَا كَاَن بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَخْفِضِ اليَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فأتم له رسول اللهﷺ المائة من الإبل .
وأعطى رسول اللهﷺ حكيم بن حزام مئة من الإبل، ثم سأله مئة أخرى، فأعطاه إياها، ثم سأله فأعطاه ، ثم قال له رسول اللهﷺ: «يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا.
فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه، فقال عمر رضي الله عنه: إني أُشهدكم معشر المسلمين، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء ، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس شيئًا بعد رسول اللهﷺ حتى تُوفي .
قال الحافظ في الفتح: وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء، مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .
وأعطى رسول اللهﷺ صفوان بن أمية – وكان ما زال مشركًا – مئة من الإبل، ثم مئة ثانية، ثم مئة ثالثة.
قال صفوان: أعطاني رسول اللهﷺ يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ .
وأعطى رسول اللهﷺ الحارث بن هشام مئة من الإبل، وأعطى سهيل بن عمرو مئة من الإبل ، وأعطى حويطب بن عبد العُزى مئة من الإبل .
وأعطى رسول اللهﷺ آخرين خمسين خمسين، وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمدًاﷺ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى سمرة ، فخطفت رداؤهﷺ، فقال: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا جَبَانًا» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.