[عودة] الكلمة الرابعة والأربعون : غزوة حنين (1)

الكلمة الرابعة والأربعون
غزوة حنين (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
غزوة حنين، ويقال لها غزوة أوطاس ، وهو الموضع الذي كانت به الوقعة في آخر الأمر، ويقال لها أيضًا: غزوة هوازن .
قال ياقوت الحمويرحمه الله: «أوطاس وادٍ في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين للنبيﷺ ببني هوازن».
وقال ابن شبيب: «الغور من ذات عرق إلى أوطاس، وأوطاس على نفس الطريق، ونجد من حد أوطاس إلى القريتين» .
وكان سبب هذه الغزوة أن رسول اللهﷺ لما فتح مكة، وخضعت له قريش، خاف أشراف هوازن وثقيف أن يغزوهم رسول اللهﷺ، فحشدوا وعزموا على قتاله .
واجتمعت إلى هوازن وثقيف جموع كثيرة من القبائل وهم: نصر، وسعد بن بكر – وهم الذين استرضع فيهم رسول اللهﷺ - وناس من هلال، وفي بني جُشم رجل يقال له دُرَيْدُ بن الصِّمَّة شيخ كبير قد عمي، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب، وكان شجاعًا مجربًا، وفي ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف: قارب بن الأسود، وفي بني مالك: ذو الخمار سُبيع بن الحارث، وأخوه أحمر بن الحارث، وقد بلغ جيش الكفار عشرين ألفًا، وكان جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري ، وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة.
فلما أجمع مالك بن عوف السير إلى رسول اللهﷺ أمر الناس أن يسوقوا معهم أموالهم، ونساءهم، وأبناءهم، فسار بهم حتى نزلوا بأوطاس .
فقال له دُريد بن الصمة: أين مالك؟ فدُعي إليه فقال له: يا مالك! إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ فقال مالك: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال له دُريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم يتبعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فقال مالك بن عوف: لا والله لا أفعل ذلك، إنك كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن إلى هذا السيف حتى يخرج من ظهري، قالوا: أطعناك، فقال دُريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
ثم أمر مالك بن عوف بالخيل فصُفت، ثم صُفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك ثم صُفَّت النعم، ثم قال للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا عليهم شدة رجلٍ واحد .
فلما سمع رسول اللهﷺ باجتماع هوازن، بعث عبد الله ابن أبي حدردٍ الأسلمي رضي الله عنه، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد رضي الله عنه، فدخل في هوازن، فأقام فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول اللهﷺ، ثم أقبل حتى أتى رسول اللهﷺ، فأخبره الخبر .
وبعد أن جمع رسول اللهﷺ المعلومات العسكرية المطلوبة عن جيش هوازن، استعد لمواجهتهم، فاستعار رسول اللهﷺ من صفوان بن أمية – وكان ما زال مشركًا – أدراعًا وسلاحًا، فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ قال رسول اللهﷺ: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ»، فأعار صفوان رسول اللهﷺ مائة درع .
وروى ابن ماجه في سننه، والإمام أحمد في مسنده عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عن أبيه عن جده أن النبيﷺ استسلف منه حين غزا حُنينًا ثلاثين أو أربعين ألفًا، فلما قدم قضاها إياه، ثم قال له النبيﷺ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ» .
وبعد أن أقام رسول اللهﷺ بمكة تسعة عشر يومًا ، خرج إلى حنين يوم السبت لست ليالٍ خلون من شهر شوال سنة ثمان للهجرة، واستعمل عتاب بن أسيد رضي الله عنه أميرًا على مكة، وهو أول أمير في الإسلام على مكة .
ومع رسول اللهﷺ اثنا عشر ألفًا من المسلمين: عشرة آلاف الذين جاؤوا معه من المدينة لفتح مكة، وألفان من أهل مكة وهم الطلقاء ، وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام، لم يتمكن الإسلام من قلوبهم ، وخرج مع رسول اللهﷺ ناس من المشركين مثل: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو.. وغيرهم.
ويعتبر هذا الجيش أكبر جيش إسلامي يخرج في حياة رسول اللهﷺ إلى ذلك الحين، ولهذا ساد شعور عند بعض الناس أنهم لن يُغلبوا من قلة .
قصة نبي من الأنبياء:
فلما علم رسول اللهﷺ بما وقع في قلوب بعض المسلمين من هذا الشعور، وهو الافتخار بكثرتهم والاعتماد عليها، قال لهم: «إِنَّ نَبِيًّا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْجَبَتْهُ أُمَّتُهُ، فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ، أَوِ الْجُوعَ، أَوِ الْمَوْتَ»، قَالَ: «فَقَالُوا: أَمَّا القَتْلُ أَوِ الْجُوعُ فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَكِنِ الْمَوْتُ»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: «فَمَاتَ فِي ثَلَاثٍ سَبْعُونَ أَلْفًا» .
شجرة ذات أنواط :
وفي الطريق إلى حنين رأوا شجرة خضراء عظيمة يقال لها ذات أنواط، كانت العرب تُعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون عليها، فقال بعض الناس من الطلقاء ممن هم حديثو عهد بالجاهلية: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال رسول اللهﷺ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)﴾ [الأعراف: 138]، إِنَّهَا السُّنَنُ ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً» .
أكمل رسول اللهﷺ مسيره إلى حنين، فأطنب السير حتى كان عشية، فحضرت الصلاة، فجاء رجل فارس، فقال: يا رسول الله! إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت على جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظُعنهم ، ونعمهم ، ونسائهم اجتمعوا في حنين، فتبسم رسول اللهﷺ، وقال: « تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ » .
ثم أكمل رسول اللهﷺ بجيشه حتى وصل إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليالٍ خلون من شوال.
ولما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه، فعبأهم في وادي حنين، وكان قد سبق المسلمين إليه، وفرَّق الناس فيه، وأوعز إليهم أن يرشقوا المسلمين بالنبل أول ما يطلعون، ثم يحملوا عليهم حملة رجل واحد.
وفي السحر عبأ رسول اللهﷺ جيشه، وعقد الألوية والرايات، ورتب جنده في هيئة صفوف منتظمة، وركب رسول اللهﷺ بغلته البيضاء – التي أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي – ولبس درعين، والمغفر والبيضة، واستقبل الصفوف، وطاف عليهم، فأمرهم وحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح إن صبروا وصدقوا.
واستعمل رسول اللهﷺ على بني سليم خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلم يزل على مقدمته حتى ورد الجِعْرَانَة .
وفي صحيح مسلم قال أنس رضي الله عنه: وعلى مجنبة خيلنا خالد ابن الوليد رضي الله عنه .
هزيمة المسلمين وفرارهم:
بدأ المسلمون ينحدرون في وادي حنين – وكان منحدرًا شديدًا – وذلك في عماية الصبح ، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي وأحنائه ، وشعابه، فما راعهم وهم ينحطون إلا الكتائب قد شدت عليهم شدة رجل واحد، وبدأ الضرب بخالد بن الوليد رضي الله عنه حتى سقط، وانكشفت خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة، وهم الطلقاء، وبدأ الفرار من كل مكان .
قال جابر رضي الله عنه: «فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين عند رسول اللهﷺ» .
وفي صحيح مسلم قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لاَ يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ» .
فلما رأى أبو سفيان بن حرب هزيمة المسلمين، وكان قد اعتزل هو وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، ورجال من أهل مكة، وراء تل ينظرون لمن يكون النصر، فقال -وكان حديث عهد بالإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية: ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان: اسكت فضَّ الله فاك ، فوالله لأن يرُبَّني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن .
ثبات رسول اللهﷺ:
وانحاز رسول اللهﷺ ذات اليمين، وثبت معه نفر قليل من المهاجرين والأنصار ، وأهل بيته، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب والعباس، وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن حاضنة رسول اللهﷺ، وأسامة بن زيد، وأخذ رسول اللهﷺ ينادي: «إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُموُا إِلَيَّ! أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، لكن لم يلتفت منهم أحد .
ثم أخذ رسول اللهﷺ يركض ببغلته قِبَل المشركين، وهو يقول:
«أَنَا النِّبِيُّ لَا كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ»
والعباس رضي الله عنه آخذ بلجام بغلتهﷺ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابها يكفانها عن الإسراع نحو العدو، وهوﷺ لا يألو يسرع نحو المشركين .
«وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، إنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى ، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع ذلك على بغلته، وليست سريعة الجري، ولا تصلح لكر ولا لفر ولا لهرب، وهو مع هذا أيضًا يركضها إلى وجوههم، وينوه باسمه ليعرفه من يعرفه، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلًا عليه، وعلمًا منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان» .
ثم نزل رسول اللهﷺ عن بغلته، فاستنصر ربه ودعاه قائلًا: «اللَّهُمَّ! نَزِّلْ نَصْرَكَ ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ أَنْ لاَ تُعْبَدَ بَعْدَ اليَوْمِ» .
وقال رسول اللهﷺ: «اللَّهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ ، وَبِكَ أُصَاوِلُ ، وَبِكَ أُقَاتِلُ» .
وأخذ رسول اللهﷺ يقاتل، والصحابة الذين ثبتوا يقاتلون معه، ويتقون به لشجاعته وثباتهﷺ كعادتهم في مثل هذه المواقف الصعبة.
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «كنا، والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به -يعني النبيﷺ» .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول اللهﷺ، فما يكون منا أحد أدنى إلى القوم منه» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.