[عودة] الكلمة الأربعون : فوائد من حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

الكلمة الأربعون
فوائد من حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
هذا الحديث اتفق العلماء على صحته، وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابه «الصحيح» وأقامه مقام الخطبة له، إشارة إلى أن كل عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.
ولهذا قال عبدالرحمٰن بن مهدي: «لو صنفت الأبواب لجعلت حديث عمر في كل باب».
وعنه أنه قال: «من أراد أن يصنف كتابًا، فليبدأ بحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فروي عن الشافعي أنه قال: «هذا الحديث ثلث العلم»، وعن الإمام أحمد قال: «أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، حديث عمر: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وحديث عائشة ﭫ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا»، وحديث النعمان بن بشير: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»».
قال ابن حجررحمه الله: «وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله: ليس في إخبار النبيﷺ شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث» .
وقد اشتمل هذا الحديث على فوائد كثيرة لدخوله في أكثر أبواب العلم، بل كلها، وأقتصر هنا على ثلاث قواعد يجتمع فيها كثير من الحكم والأحكام.
الأولى: دل الحديث على أن الأعمال وإن كانت صالحة وعلى السنة لا تقبل إلا بنية خالصة، وذلك أن يريد العامل بعمله وجه الله تعالى، وما لم يكن كذلك فهو مردود غير مقبول، ولذلك قالﷺ: «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» ومثلﷺ بمثال من الواقع يبين هذا الأمر العظيم، وهو أن المهاجرين صورتهم الظاهرة واحدة، ولكن لما اختلفت النيات كان من هاجر لله ولرسوله مقبول الهجرة، مأجور عليها، ومن هاجر لغير ذلك من أمور الدنيا فهجرته مردودة غير مقبولة، ولا مأجور عليها، وقس على ذلك جميع الأعمال الصالحة، قالﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» .
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما قولهﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» .
الثانية: أن من عمل عملًا صالحًا موافقًا للسنة إذا لم يخلص فيه نيته، فإنه يكون مشركًا، قالﷺ -فيما يرويه عن ربه-: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» .
ويبطل بذلك عمله - وإن كان ظاهره خيرًا- ولم يكن له منه إلا النصب والتعب، كما قال تعالى: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4)﴾ ]الغاشية:3-4].
الثالثة: بالنية تتميز العبادات بعضها عن بعض، فمن صلى الظهر بنية العصر لم يجزئه ذلك، وكذلك العكس، وإن كانت صورتهما في الفعل واحدة، ومن صام يومًا من أيام رمضان ولم ينوه منه لم يجزئه ذلك عن صوم الفرض على الراجح من أقوال أهل العلم.
وتتميز العبادات عن العادات ويختلف الحكم باختلافهما، فمن اغتسل ينوي بذلك التبرد لم يجزئه عن غسل الجنابة مثلًا، ومن أمسك عن المفطرات يومًا كاملًا ولم ينو بذلك التقرب إلى الله، وإنما كانت نيته التداوي ونحوه؛ لم يكن ذلك مسقطًا له عن فرض ولا مجزئًا عن مسنون.
فاحرص يا عبد الله على معرفة هذه القواعد والعمل بها تفوز بسعادة الدارين، وتسلم في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.