[عودة] الكلمة الرابعة والثلاثون : من محاسن الدين الإسلامي: وجود بدائل لكل عمل صالح
الكلمة الرابعة والثلاثون
من محاسن الدين الإسلامي: وجود بدائل لكل عمل صالح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
«فإن الدين الإسلامي الذي جاء به محمدﷺ أكمل الأديان وأفضلها وأعلاها وأجلها، وقد حوى من المحاسن والكمال والصلاح والرحمة والعدل والحكمة ما يشهد لله تعالى بالكمال المطلق، وسعة العلم، والحكمة، ويشهد لنبيهﷺ أنه رسول الله حقًّا، وأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾ ]النجم:4]» .
ومن محاسنه العظيمة وجود بدائل لكل عمل صالح، وقد يعجز المرء المسلم عن أدائه لمرض، أو فقر، أو شغل، أو تميل نفسه إلى نوع آخر من العبادة هو لها أنشط، وعليها أقدر، فلا أحد من أهل هذه الملة السمحاء مغبون أبدًا إلا أن يكون تقصيره من نفسه، وكلما كان العبد في دين الله أفقه، كان حصوله على مراده أتم.
روى مسلم في صحيحه من حديث جويرية بنت الحارث أم المؤمنين: أن النبيﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» .
فللَّه الحمد، ثم لله الحمد، ثم لله الحمد على ما أعطى وأنعم وأكرم، قال ابن رجبرحمه الله: «فسبحان من فضل هذه الأمة، وفتح لها على يدي نبيها نبي الرحمة أبواب الفضائل الجمة، فما من عمل عظيم يقوم به قوم ويعجز عنه آخرون إلا وقد جعل الله عملًا يقاومه أو يفضل عليه، فتتساوى الأمة كلها في القدرة عليه» . وهذه بعض الأمثلة على سبيل التذكير لا سبيل الحصر.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباسﮏ: أن النبيﷺ قال لامرأة من الأنصار يُقال لها أم سنان: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟» قَالَتْ :نَاضِحَانِ كَانَا لِأَبِي فُلَانٍ - زَوْجِهَا- حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَكَانَ الآخَرُ يَسْقِي عَلَيْهِ غُلَامُنَا، قَالَ: «فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً- أَوْ حَجَّةً مَعِي» .
وروى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالكﮏ أن النبيﷺ قال: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِﷺ: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» .
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبيﷺ فقالوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأََمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» .
ومن قصَّر في شهر رمضان بنوافل العبادات من صلاة وصدقة وقراءة قرآن وغير ذلك، فعليه بليلة القدر، قال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)﴾ ]القدر:2-3 ]، أي العبادة فيها خير من ثلاثة وثمانين عامًا وبضعة أشهر.
والذي لا يستطيع الصدقة بالمال أو قيام الليل، فقوله: سبحان الله وبحمده يعدل ذلك، روى أبو نعيم في كتابه «معرفة الصحابة» من حديث عبد الله بن حبيب أن النبيﷺ قال: «مَنْ ضَنَّ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَبِاللَّيْلَ أَنْ يُكَابِدَهُ، فَعَلَيهِ بِسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» .
ومن عجز عن الجهاد بنفسه، فإن بر الوالدين يعدل ذلك، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمروﮏ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيﷺ فَاسْتَأذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وفي رواية لأبي داود قال: جِئتُ أُبَايِعَُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، قَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» .
وروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة أم المؤمنينﭫ قالت: استأذنت النبيﷺ في الجهاد، فقالﷺ: «جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ» . وفي رواية: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد، قال: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» .
والتيمم عند العجز عن استعمال الماء أو عدمه، وهو وإن كان رخصة فإنه بديل كذلك، روى أبو داود في سننه من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» .
ومن لم يستطع قراءة القرآن في صلاته، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله مع الأذكار الأخرى تعدل ذلك، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن أبي أوفى قال: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّﷺ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَعَلِّمْنِي شَيْئًا يُجْزِئُنِي مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، قَالَ: فَذَهَبَ أَوْ قَامَ أَوْ نَحَو ذَا، قَالَ: هَذَا لِلَّهِ عز وجل فَمَا لِي، قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، واهْدِنِي، وارْزُقْنِي- أَوْ وارْزُقْنِي، واهْدِنِي، وَعَافِنِي» .
ومن لم يستطع أن يقرأ ثلث القرآن، فإن سورة الصمد تعدل ذلك، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبيﷺ لأصحابه: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟» فَشَق ذَلِكَ عَليهِم، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ» .
ومن لم يستطع أن يصوم يومًا ويفطر يومًا فإن صيام ست من شوال مع رمضان يعدل صيام الدهر كله، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب قال: قال رسول اللهﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» .
ومن لم يستطع ذكر الله طوال يومه وليلته، فإن هناك من الأذكار ما يعدل ذلك، روى الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبيﷺ مر به وهو يحرك شفتيه، فقال: «مَاذَا تَقُول يَا أَبَا أُمَامَةَ؟» قَالَ: أَذْكُرُ رَبِّي، قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَكْثَرَ أَوْ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِكَ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ، وَالنَّهَارَ مَعَ اللَّيْلِ؟ أَنْ تَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا خَلَقَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَ تَقُولُ الحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ» .
ومن لم يستطع أن يعتق الرقاب، فعليه بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فإنها تعدل ذلك، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَت لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» .
ومن لم يستطع صيام النهار وقيام الليل، فإن حسن الخلق يعدل ذلك، روى أبو داود في سننه من حديث عائشة ﮏ أن النبيﷺ قال: «إِنَّ الْمُؤمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» .
ومن لم يستطع صيام النهار، وقيام الليل، والصدقة، فإن الإصلاح بين الناس يعدل ذلك، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا:بَلَى، قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ»، قَالَ: «وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» . وفي رواية: «لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» .
ومنها: صدقة البدن، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبيﷺ أنه قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.