[عودة] الكلمة الثانية والثلاثون : الشورى

الكلمة الثانية والثلاثون
الشورى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
فقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تأمر بالشورى وترغب فيها، قال تعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ]آل عمران:159].
قال الطبري إمام المفسرين- بعدما ذكر أقوال أهل العلم في هذه الآية: «وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال أن الله عز وجل أمر نبيهﷺ بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفًا منه أمته مآتي الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم كما كانوا يرونه في حياتهﷺ يفعله، فأما النبيﷺ فإن الله كان يُعْرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم» . أهـ
وقال تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ ]الشورى:38 ]، قال ابن كثيررحمه الله: «أي لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ ]آل عمران:159 ]، ولهذا كانﷺ يشاورهم في الحرب ونحوها، ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طُعن، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر» .
«والمشاورة هي: استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور، ويكون ذلك في الأمور الجزئية التي يتردد فيها المرء بين فعلها وتركها» .
وكان النبيﷺ يشاور أصحابه كثيرًا، والنصوص في هذا كثيرة.
قال علي رضي الله عنه بعدما طعن عمر رضي الله عنه: ما خلفت أحدًا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كثيرًا كنت أسمع النبيﷺ يقول: «جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» .
«ولا شك أن كثرة لقاء الرسولﷺ مع صاحبيه كانت لأمور عظيمة، ومن ذلك التشاور المستمر في شؤون الأمة وما يجد فيها ويؤكد ذلك وقائع السيرة ورواياتها، بل إن الأمر أوسع من ذلك، فقد صح عن رسول اللهﷺ أنه قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بالْمَعْرُوف، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى» » .
ومن الأمثلة على استشارة النبيﷺ لأصحابه وأهل بيته:
استشارة النبيﷺ لأصحابه في غزوة بدر: فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول اللهﷺ شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأََخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا .
وكان النبيﷺ يريد بهذه الاستشارة الأنصار لأنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان الرسولﷺ يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليه نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما أجابوا بما سبق اطمأن النبيﷺ واستبشر.
استشارته لأصحابه في أسارى بدر: روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: فلما أسروا الأسارى، قال رسول اللهﷺ لأبي بكر وعمر: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلاءِ الأُسَارَى؟»، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول اللهﷺ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟»، قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان - نسيبًا لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول اللهﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما، فقال رسول اللهﷺ: «أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» - شجرة قريبة من نبي اللهﷺ - وأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾] الأنفال:67-69] فأحل الله الغنيمة لهم .
استشارته لأم سلمةﭫ في غزوة الحديبية، فإن النبيﷺ لما كتب الكتاب مع سهيل بن عمرو، أمر الصحابة أن يحلوا بالحلق بعد النحر، فما قام منهم رجل واحد، وقال ذلك ثلاث مرات، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمةﭫ، وذكر لها ما لقي من الناس، فأشارت عليه أم سلمةﭫ أن يخرج ثم ينحر بدنه ولا يكلم أحدًا منهم، ثم يدعو حالقه فيحلقه، فخرج رسول اللهﷺ وفعل ما أشارت به أم سلمة من النحر والحلق، فلما رأى الصحابة ذلك، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا .
«ومنها: مشاورته لأصحابه في أُحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج ]إلى العدو[ فأشار جمهورهم بالخروج، فخرج إليهم.
ومنها: مشاورته لأصحابه يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة فترك ذلك.
ومنها: مشاورته لأصحابه يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين؟ فقال له الصديق: إنا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال» . والأمثلة في هذا كثيرة.
«وكان الصحابة بعد رسول اللهﷺ يسيرون على هذه الشورى، فبعد وفاة رسول اللهﷺ ارتد بعض العرب، وامتنع آخرون عن أداء الزكاة، فتشاور الصحابة في ذلك، وكان لعمر رضي الله عنه رأي معروف، وخالفه في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، وثبت أبو بكر على رأيه بعدما ذكر الأدلة على صحة ما ذهب إليه، ثم شرح الله صدر عمر لقول أبي بكر، واتفقت كلمة الصحابة على حرب المرتدين، وقتال مانعي الزكاة.
وكذلك عمر رضي الله عنه، فقد كان يستشير كثيرًا، ويجمع أهل بدر للمعضلات، قال سعد بن أبي وقاص: «ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا ولا ألب لبًّا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع علمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات، ثم يقول: جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله» .
وآخر مظهر من مظاهر الشورى في حياة عمر رضي الله عنه: اختياره لأهل الشورى، وإسناد أمر الخلافة إليهم، وانتقل إلى الدار الآخرة وأمر المسلمين شورى بينهم، فرضي الله عنه وأرضاه.
قال الماوردي: «اعلم أن الحزم لكل ذي لب ألا يبرم أمرًا، ولا يمضي عزمًا إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح، قال الشاعر:
إِِذَا بَلَغَ الرّأْيُ المَشُورَةَ فَاستَعِنْ
بِرَأْيِ نَصِيْحٍ أَوْ نَصِيْحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْــعَلِ الشُّـورَى عَلَيْـكَ غَضَاضَـةً
فَإِنَّ الخوَافِي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
فإذا عزم على المشاورة، ارتاد لها من أهلها من قد استكملت فيه خمس خصال:
عقل كامل مع تجربة سالفة، فإن بكثرة التجارب تصح الرؤية، قال أبو الأسود الدؤلي:
وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ
وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلَكِنْ إِذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ
َفحُقَّ لَهُ مِنْ طَاَعةٍ بِنَصِيبِ
أن يكون ذا دين وتقى، فإن ذلك عماد كل صلاح، وباب كل نجاح، ومن غلب عليه الدين فهو مأمون السيرة، موفق العزيمة.
أن يكون ناصحًا ودودًا، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي.
أن يكون سليم الفكر من هم قاطع، وغم شاغل، فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر.
ألا يكون له في الأمر المتشاور فيه غرض يتابعه، ولا هوى يساعده، فإن الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى، وجاذبته الأغراض فسد.
فإذا استكملت هذه الخصال الخمس في رجل، كان أهلًا للمشورة، ومعدنًا للرأي، فلا يُعدل عن استشارته» .
قال ميمون بن مهران: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول اللهﷺ قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإذا أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم» .
قال الشافعيرحمه الله: «إنما يؤمر الحاكم بالمشورة لكون المستشير ينبهه على ما يغفل عنه، ويدله على مالا يستحضره من الدليل، لا ليقلد المشير فيما يقوله: فإن الله لم يجعل هذا لأحد بعد رسول اللهﷺ» .
«وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه، وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدًا، ولا يطيع مرشدًا» .
وقال بعض البلغاء: «من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء الفضلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل» .
قال ابن عطية: «والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾ ]الشورى:38]»(1).
قال أعرابي: «ما غُبنت قط حتى يُغبن قومي، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئًا حتى أشاورهم»(1).
وقال ابن خُويز مَنْداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكُتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وكان يُقال: ما ندم من استشار، وكان يقال: من أُعجب برأيه ضل» .
قال البخاري: «وكانت الأئمة بعد النبيﷺ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها.
وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى، والأمانة، ومن يخشى الله تعالى» .
قال الشاعر:
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الخَفِيِّ المُشْكِلِ
وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ نَاصِحٍ مُتَفَضِّلِ
فَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نَبِيَّهُ
فِي قَوْلِهِ شَاوِرْهُمْ وَتَوَكَّلِ
وقال آخر:
وِإنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْكَ الْتَوَى
فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِ
قال الحسن: «ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله»، فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح، وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه. قاله الخطابي وغيره» .
قال القرطبي: «الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أيها أقربها قولًا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلًا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب» .
وقال بعضهم: «شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما دفع عليه غاليًا وأنت تأخذه مجانًا، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة – وهي أعظم النوازل- شورى» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.