[عودة] الكلمة الواحدة والثلاثون : الإحسان

الكلمة الواحدة والثلاثون
الإحسان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
«فمن مقامات الدين العظيمة، ومن منازله الرفيعة منزلة الإحسان، ويختلف معنى الإحسان اصطلاحًا باختلاف السياق الذي يرد فيه، فإذا اقترن بالإيمان والإسلام كان المراد به الإشارة إلى المراقبة وحسن الطاعة، وقد فسره النبيﷺ بذلك عندما سأله جبريل: ما الإحسان؟ فقال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يَرَاكَ». أما إذا ورد الإحسان مطلقًا، فإن المراد به فعل ما هو حسن» .
قال الراغب: «الإحسان: فعل ما ينبغي فعله من المعروف، وهو ضربان: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان، والثاني: الإحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا، ومنه قول علي رضي الله عنه: «الناس أبناء ما يحسنون: أي منسوبون إلى ما يعلمون ويعملونه من الأفعال الحسنة» .
قال ابن القيمرحمه الله: «الإحسان من منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾[الفاتحة:5]، وهذه المنزلة هي لب الإيمان وروحه وكماله، وهي جامعة لما عداها من المنازل، فجميعها منطوية فيها، ومما يشهد لهذه المنزلة قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) ﴾ ]الرحمن:60]، إذ الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، والإحسان الأول في الآية الكريمة هو – كما قال ابن عباس والمفسرون – هو قول: لا إله إلا الله، والإحسان الثاني هو الجنة، والمعنى: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة» .
والإحسان شرط في قبول العمل، فإن العمل لا يُقبل إلا بشرطين: الإخلاص لله، وموافقته للسنة، وهو الإحسان الذي ذكره الله بقوله: ﴿۞ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)﴾ ]لقمان:22 ].
والإحسان بمعناه العام يشتمل إحسان العبد في عبادة ربه، وتعامله مع الخلق، وأعماله، وأقواله ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ ]الملك:2].
ففي العبادات؛ يقول النبيﷺ لجبريل عندما سأله ما الإحسان؟ قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يَرَاكَ» .
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ» . والشاهد في هذا الحديث قوله: «وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ».
وروى مسلم في صحيحه من حديث عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» .
وقد علمنا النبيﷺ أن ندعو الله تعالى بأن يرزقنا حسن العبادة، ففي الحديث الذي رواه أبو داود في سننه من حديث معاذ بن جبل أن رسول اللهﷺ أخذ بيده وقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . وكان من دعواتهﷺ قوله: «...وَأَسْأَلُكَ َحُسْنَ عِبَادَتِكَ» .
ومن خصال الإحسان: الإحسان إلى الوالدين: ببرهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، والدعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، قال تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ]الإسراء:23].
قال القرطبيرحمه الله: «قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان، من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكرهما وهما الوالدان، فقال تعالى: ﴿ نِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ ]لقمان:14]» .
ومنها: الإحسان إلى الأولاد، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشةﭫ قالت: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ، تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّﷺ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: «مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» .
ومنها: الإحسان إلى الزوجات، روى الترمذي في سننه من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول اللهﷺ ، فقال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا... ثم قال في آخر الحديث: أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» .
ومنها: كذلك الإحسان إلى الجار، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ﴾ ] النساء:36].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي شريح العدوي أن النبيﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» .
قال ابن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه. ويحصل امتثال الوصية بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه.. إلى غير ذلك على اختلاف أنواعه: حسية كانت أو معنوية» . أهـ
ومنها: الإحسان إلى اليتامى والمساكين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ]البقرة:83 ].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول اللهﷺ قال: «...وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ»، وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى .
والإحسان إليهم يكون بالبر بهم، وكفالة عيشهم، وتفقد أحوالهم، وإيصال النفع إليهم قولًا وعملًا.
ومنها: الإحسان إلى الناس بالقول والعمل، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ ]البقرة:83]، وقال تعالى: ﴿۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ ]النحل:90]، وقال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ]الإسراء:53 ].
قال ابن كثيررحمه الله: «يأمر تعالى رسولهﷺ أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها» .
قال الشاعر:
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ
فَطَاَلمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
ومنها: الإحسان عند مجادلة أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ]النحل:125 ].
قال الشوكانيرحمه الله: «أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وإنما أمرسبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقًّا، وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا، وغرضه فاسدًا» .
ومنها: الإحسان في المعاملة من بيع وشراء ونحو ذلك، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله أن النبيﷺ قال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» ، وفي الحديث الآخر: «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» .
ومنها: الإحسان إلى الميت عند تكفينه، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله أن النبيﷺ قال: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ» .
ومنها الإحسان إلى الحيوان، وذلك بحد الشفرة عند ذبحه، وأن لا يحد الشفرة أمامه، روى مسلم في صحيحه من حديث شداد بن أوس أن النبيﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» . والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه.

ومن وصايا السلف الصالح: خمسٌ لهن أحسن من الدهم الموقفة : لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر، ولا تكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه، فعيب، ولا تماري حليمًا ولا سفيهًا، فإن الحليم يقليك ، وإن السفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه عما تحب أن يعفيك منه، واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالإجرام .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.