[عودة] الكلمة الثامنة : فوائد من قصة نوح عليه السلام

الكلمة الثامنة
فوائد من قصة نوح عليه السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
استكمالًا للحديث عن نبي الله نوح عليه السلام، هذه بعض الفوائد من قصته:
«أن جميع الرسل من نوح إلى محمدﷺ متفقون على الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك، فنوح وغيره أول ما يقولون لقومهم: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ﴾ [ الأعراف:65]، ويكررون هذا الأصل بطرق كثيرة.
آداب الدعوة وتمامها، فإن نوحًا دعا قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا بكل وقت وبكل حالة يظن فيها نجاح الدعوة، وأنه رغبهم بالثواب العاجل وبالسلامة من العقاب، والتمتيع بالأموال والبنين، وإدرار الأرزاق إذا آمنوا وبالثواب الآجل؛ وحذرهم من ضد ذلك، وصبر على هذا صبرًا عظيمًا كغيره من الرسل، وخاطبهم بالكلام الرقيق والشفقة، وبكل لفظ جاذب للقلوب محصل للمطلوب، وأقام الآيات، وبيَّن البراهين.
أن الشُّبه التي قدح فيها أعداء الرسل برسالتهم من الأدلة على إبطال قول المكذبين، فإن الأقوال التي قالوها، ولم يكن عندهم غيرها، ليس لها حظ من العلم والحقيقة عند كل عاقل، فقول قوم نوح: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ هود:[27]، تأمل جملها تجدها تمويهات دالة على أنهم مبطلون مكابرون للحقيقة، فقولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا ﴾ فهل في كون الحق جاء على يد بشر شيء من الشبهة تدل على أنه ليس بحق؟ ومضمون هذا الكلام أن كل قول قاله البشر من أي مصدر يكون باطلًا، وهذا قدح منهم في جميع العلوم البشرية المستفادة من البشر، ومعلوم أن هذا يبطل العلوم كلها، فهل عند البشر علوم إلا مستفيدها بعضهم من بعض وهي متفاوتة؟ فأعظمها وأصدقها وأنفعها ما تلقاه الناس عن الرسل الذين علومهم عن وحي إلهي.
وكذلك قولهم: ﴿وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ أي: نحن وأنتم بشر، وقد أجابت الرسل كلهم عن هذه المقالة فقالوا: ﴿إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ إبراهيم:[11]، فمن الله على الرسل، وخصهم بالوحي والرسالة مع أن إنكارهم عليهم من هذه الجهة من أكبر الجهل وأعظم القدح في نعمة الله، فإن رحمة الله وحكمته اقتضت أن يكون الرسل من البشر؛ ليتمكن العباد من الأخذ عنهم، وتتيسر عليهم هذه النعمة، ويسهِّل الله لهم طرقها، فهؤلاء المكذبون كفروا بأصل النعمة، وبالطريق المستقيم النافع الذي جاءتهم به.
وكذلك قولهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ من المعلوم لكل أحد عاقل أن الحق يعرف أنه حق بنفسه لا بمن تبعه، وأن هذا القول الذي قالوه صدر عن كبر وتيه، والكبر أكبر مانع للعبد من معرفة الحق ومن اتباعه.
وأيضًا قولهم: ﴿أَرَاذِلُنَا ﴾ إن أرادوا الفقر فالفقر ليس من العيوب، وإن أرادوا أراذلنا في الأخلاق فهذا كذب معلوم بالبديهة، وإنما الأراذل الذين قالوا هذه المقالة، فهل الإيمان بالله ورسله، وطاعة الله ورسله، والانقياد للحق، والسلامة من كل خصلة ذميمة، هل هذا الوصف رذيلة وأهله أراذل؟ أم الرذيلة بضده.. من ترك أفرض الفروض توحيد الله وشكره وحده وامتلاء القلب من التكبر على الحق وعلى الخلق؟ هذا والله أرذل الرذائل، ولكن القوم مباهتون فما نقموا من هؤلاء الأخيار إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
وقولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ أي: مبادرة منهم إلى الإيمان بك يا نوح، لم يشاوروا ولم يتأنوا ويترووا لو فرض أن هذا حقيقة فهذا من أدلة الحق، فإن الحق عليه من البراهين والنور والجلالة والبهاء والصدق والطمأنينة ما لا يحتاج إلى مشاورة أحد باتباعه، وإنما التي تحتاج إلى مشاورة هي الأمور الخفية، التي لا تعلم حقيقتها ولا منفعتها، أما الإيمان الذي هو أجلى من الشمس في نورها، وأحلى من كل شيء، فما يتأخر عنه إلا كل متكبر جبار أمثال هؤلاء الطغاة البغاة.
وقولهم: ﴿ مَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ هل في هذا الكلام شيء من الإنصاف بوجه، لانهم يخبرون عن أنفسهم، وكلامهم يحتمل أنه الذي في قلوبهم، ويحتمل أنهم يقولون ما لا يعتقدون، وعلى كلا الأمرين فالحق يجب قبوله، سواء أقاله الفاضل أو المفضول، الحق أعلى من كل شيء.
وكذلك قولهم: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ معلوم أن الظن أكذب الحديث، ثم لو قالوا: بل نعلمكم كاذبين، فهذه كل مبطل يقدر أن يقولها، ولكن بأي شيء استدللتم أنهم كاذبون؟ فهذه أدلتهم وبراهينهم أبطلت نفسها بنفسها كما ترى، فكيف وقد قابلها الرسل بالأدلة والبراهين المتنوعة التي لا تبقي ريبًا لأحد في بطلانها؟
أن من فضائل الأنبياء وأدلة رسالتهم إخلاصهم التام لله تعالى في عبوديتهم لله القاصرة، وفي عبوديتهم المتعدية لنفع الخلق كالدعوة والتعليم وتوابع ذلك، ولذلك يبدون ذلك ويعيدونه على أسماع قومهم كل منهم يقول: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۚ ﴾هود:[29]، ولهذا كان من أجل الفضائل لاتباع الرسل أن يكونوا مقتدين بالرسل في هذه الفضيلة، والله تعالى يجعل لهم من فضله من رفعة الدنيا والآخرة أعظم مما يتنافس فيه طلاب الدنيا.
أن القدح في نيات المؤمنين وفيما منَّ الله عليهم به من الفضائل والتألي على الله أنه لا يؤتيهم من فضله من مواريث أعداء الرسل، فلهذا قال نوح لقومه حين تألوا على الله، وتوسلوا في ذم المؤمنين به بذلك، فقال: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ هود:[31].
أنه ينبغي الاستعانة بالله، وأن يذكر اسمه عند الركوب والنزول، وفي جميع التقلبات والحركات، وحمد الله والإكثار من ذكره عند النعم لا سيما النجاة من الكربات والمشقات، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ هود:[41]، وقال: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ المؤمنون:[28].
وأنه ينبغي أيضًا الدعاء بالبركة في نزول المنازل العارضة كالمنازل في إقامات السفر وغيره، والمنازل المستقرة كالمساكن والدور؛ لقوله: ﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ المؤمنون:[29]. وفي ذلك كله من استصحاب ذكر الله، ومن القوة على الحركات والسكنات، ومن قوة الثقة بالله، ومن نزول بركة الله التي هي خير ما صحبت العبد في أحواله كلها ما لاغنى للعبد عنه طرفة عين.
أن تقوى الله والقيام بواجبات الإيمان من جملة الأسباب التي تُنال بها الدنيا وكثرة الأولاد والرزق وقوة الأبدان، وإن كان لذلك أيضًا أسباب أُخر، وهي السبب الوحيد الذي ليس هناك سبب سواه في نيل خير الآخرة، والسلامة من عقابها.
أن النجاة من العقوبات العامة الدنيوية هي للمؤمنين، وهم الرسل وأتباعهم، وأما العقوبات الدنيوية العامة فإنها تختص بالمجرمين، ويتبعهم توابعهم من ذرية وحيوان، وإن لم يكن لها ذنوب؛ لأن الوقائع التي أوقع الله بأصناف المكذبين شملت الأطفال والبهائم، وأما ما يذكر في بعض الإسرائيليات أن قوم نوح أو غيرهم لما أراد الله إهلاكهم أعقم الأرحام حتى لا يتبعهم في العقوبة أطفالهم فهذا ليس له أصل، وهو مناف للأمر المعلوم، وذلك مصداق لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ ﴾ الأنفال:[25]» .
صبر نوح عليه السلام على دعوته لقومه مئات السنين، فقد لبث فيهم تسعمئة وخمسون عامًا يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا، قال تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ ]العصر:1-3]، وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ ﴾ الأحقاف:[35].
ومن لوازم الصبر ألا يستطيل الداعي إلى الله الطريق، ولا يستعجل النتائج، روى البخاري في صحيحه من حديث خباب ابن الأرت قال: شَكَوْنَا إلى رَسُولِ اللهِﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.