[عودة] الكلمة الرابعة : تأملات في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )

الكلمة الرابعة
تأملات في قوله تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
فإن الله أنزل هذا القرآن لتدبره والعمل به، فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ ]محمد: 24].
قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ ] الذاريات: 56-58].
قال ابن كثير رحمه الله: «ومعنى الآية أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم» ، قال تعالى: ﴿ﮤيَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ]فاطر: 15].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» .
وفي الحديث القدسي من حديث أبي ذر، أن النبيﷺ قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ...يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي... يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» .
وقوله: «الرزاق صيغة مبالغة تدل على كثرة الرزق، وعلى كثرة المرزوق، فرزق الله كثير باعتبار المرزوقين، فكل دابة في الأرض على الله رزقها، من إنسان وحيوان، ومن طائر وزاحف، ومن صغير وكبير، قال تعالى: ﴿۞ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ ]هود: 6].
وقوله: ذو القوة المتين أي صاحب القوة التي لا قوة تضادها، والمتين يعني الشديد، شديد في قوته، شديد في عقابه، شديد في كل ما تقتضي الحكمة الشدة فيه» .
والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، فالصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، وكل ما يقرب إلى الله من قول، أو فعل، فإنه عبادة» .
«العبادة نوعان:
الأول: عبادة قلبية: ومنها التوكل، والإخلاص، والمحبة، والإنابة، والرجاء، والخوف، والخشية، والرضى، والصبر.. وغيرها.
والثاني:عبادة الجوارح: وهي قسمين، عبادة فعلية مثل الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وعبادة قولية مثل الذكر، وقراءة القرآن، والاستغفار، والصلاة على النبيﷺ» .
فكل ما تقدم من أنواع العبادة يجب صرفه لله تعالى، ومن صرف شيئًا منها لغير الله فقد أشرك، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ]الأنعام: 162-163].
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ]الأنبياء: 25].
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ]الزمر: 65].
والعبادة لها مفهوم صحيح ومفهوم خاطئ، فمن عبد الله بما يرضيه وشرعه على السنة، فعبادته صحيحة، ومن كانت عبادته لله وفق ما تشتهي نفسه، وما تمليه عليه إرادته أو إرادة آبائه وشيوخه، فعبادته غير صحيحة، ولا مقبولة، بل مردودة عليه، قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ]هود: 112].
فهذا بيان واضح أن الاستقامة أن يتعبد لله بما أُمر، لا بما أراد، ولذلك لم يقل كما أردت، وإنما قال كما أُمرت.
قال تعالى: ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ ] الجن: 16]. ولا تتحقق الاستقامة في عبادة الله إلا أن يكون العبد سويًّا في نفسه، وأن يكون سيره على الطريق القويم الذي وردت به الشريعة، وهذا هو ميزان المتقين.
قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ]الملك: 22].
وما خلق الله الموت والحياة، أجيال تفنى وأجيال تحيا، إلا لتحقيق هذا الغرض، قال تعالى: ﴿بَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ ]الملك: 1-2].
قال الفضيل بن عياض: «أحسن عملًا: أخلصه وأصوبه، وقال: إن كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة» .
والعبادة الصحيحة التي يقبلها الله هي السير على الصراط المستقيم دون إفراط أو تفريط، قال الله تعالى: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ ]يس: 1-5].
فبين تعالى أن الصراط المستقيم هو ما أنزله على رسولهﷺ، وما من عمل إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إفراط أو تفريط، فإن الشيطان يأتي لقلب العبد فيشمه، فإن رأى فيه نشاط وهمة، زين له التشديد والغلو حتى يخرجه عن الصراط المستقيم، وإن رأى فيه توانيًا وكسلًا زين له التقصير والإهمال، ومراده من ذلك أن يخرج العبد عن الصراط المستقيم، ومن اقتدى بمحمدﷺ وأصحابه الكرام فقد هدي إلى صراط مستقيم.
قال تعالى عن نبيهﷺ: ﴿ﭩوَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾ ]الشورى: 52-53].
فقد بين تعالى أن الناس في سلوك الصراط المستقيم على ثلاثة أقسام:
فمن عبد الله على جهل، فقد ضل وغوى، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقدوته في ذلك النصارى من أهل الكتاب.
ومن علم ولم يعمل، وحرَّف وبدَّل، فقد وقع في غضب الله ولعنته، وقدوته في ذلك اليهود.
ومن نجا مما وقعت فيه الطائفتان فتفقه في دين الله، وعلم وعمل، فقد سار على الصراط المستقيم الذي دعا إليه عباده، وعلمهم أن يدعوه به، قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ ]الفاتحة: 6-7].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.