[عودة] الكلمة الثانية والأربعون: من فضائل مصر

الكلمة الثانية والأربعون: من فضائل مصر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فإن الخالق لجميع المخلوقات قد فضل بعضها على بعض، واختار منها ما شاء، فخلق الناس واختار منهم الأنبياء، وخلق الأماكن واختار منها المساجد، وخلق الشهور واختار منها رمضان، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68].

ومن الأماكن التي ورد ذكرها في كتاب الله – مصر– قال تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} [المؤمنون: 50]. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «يعني مصر، وإن مصر خزائن الأرضين كلها، وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف -عليه السلام- لملك مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]. ففعل، فأغاث الله الناس بمصر وخزائنها، ولم يذكر -عز وجل- في كتابه مدينة بعينها بمدح غير مكة ومصر، فإنه قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]. وهذا تعظيم ومدح، وقال: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61]. فما لم يصرف فهو علم لهذا الموضع، وقوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] تعظيم لها، فإن موضعًا يُوجد فيه ما يسألون لا يكون إلا عظيمًا، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ} [يوسف: 21]، وقال تعالى: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)} [يوسف: 99]، وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس: 87]. وسمى الله تعالى ملك مصر العزيز، بقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 30]. وقالوا ليوسف حين ملك مصر: {قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88]» (¬1).

كما أشار الله إليها في مواضع كثيرة، قال بعضهم: تصل إلى ثلاثين موضعًا، وذلك نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)} [القصص: 20]، وكما في قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15] ... وغيرها.
وقد وصف -سبحانه- أرض مصر بالخيرات والبركات، فقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)} [الدخان: 25 - 28].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا»، أَوْ قَالَ: «ذِمَّةً وَصِهْرًا» (¬2). فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها أم العرب (¬3)،

وأما الذمة: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- تسرى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي من قرية نحو الصعيد يقال لها حفن من كورة أنصنا (¬4).
وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند وفاته، فقال: «اللَّهَ اللَّهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (¬5).

وفي سنة سبع من الهجرة أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة إلى المقوقس عظيم القبط في مصر وحملها حاطب بن أبي بلتعة، وهذا نصها: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى المُقَوْقَسِ عَظِيمِ القِبْطِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ .. فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الإِسْلَامِ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ القِبْطِ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [آل عمران: 64]» (¬6).
فدعا المقوقس بكاتب له يكتب العربية، فكتب رسالة هذا نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط. سلام، أما بعد .. فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت لك بغلة لتركبها، والسلام عليك». ولم يزد على هذا ولم يسلم (¬7).
أما الجاريتان: فالأولى أم إبراهيم القبطية واسمها مارية بنت شمعون أم المؤمنين -رضي الله عنهما-، والثانية: سيرين، أعطاها النبي -صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت، فولدت له عبدالرحمن، وأما الغلام فاسمه مأبور، والبغلة اسمها دلدل، ومعها كسوة وقدحًا من قوارير كان يشرب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬8).

وفي أرض مصر يجري نهر النيل الذي ينبع من الجنة، فقد جاء في الصحيحين في قصة الإسراء والمعراج، قال -صلى الله عليه وسلم-: « ... وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلَالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ؛ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: أَمَا البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَا الظَّاهِرَانِ النَّيلُ والْفُرَاتُ» (¬9).
ومنها: أن فيها الوادي المقدس طوى، والوادي المقدس هو الذي كلم الله فيه نبيه موسى -عليه السلام- أثناء خروجه من مدين عائدًا إلى مصر وكان معه أهله (¬10)، قال تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)} [طه: 12].
وفيها: جبل الطور الذي ذكره الله في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {وَطُورِ سِينِينَ (2)} [التين: 2]. قال كعب الأحبار وغير واحد: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى (¬11)، ورجح ذلك ابن القيم -رحمه الله- (¬12).
وهي المبوأ الصدق على قول بعض المفسرين الذين أخبر الله عنه بقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]. قال الطبري -رحمه الله-: «أي منازل صدق، قيل: عني بذلك الشام وبيت المقدس، وقيل: عني به الشام ومصر» (¬13).

وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]. قال القرطبي -رحمه الله-: «هي أرض الشام ومصر، ومشارقها ومغاربها: جهات الشرق والغرب بها، فالأرض مخصوصة عن الحسن وقتادة وغيرهما (¬14). وقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بإخراج الزروع، والثمار، والأنهار.
وعلى أرضها ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثنتا عشرة عينًا.
وقال تعالى حاكيًا عن آل فرعون: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36]، وهذا يدل على كثرة المدن في مصر آنذاك.
ومصر بلد الأنبياء، كان بها إبراهيم الخليل -عليه السلام-، ويعقوب، ويوسف، وولد بها موسى، وهارون، ويوشع بن نون، والأسباط، وغيرهم، عليهم الصلاة والسلام.
ودخل مصر كثير من الصحابة، منهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفتحها عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وعاش فيها جمع من العلماء والفقهاء، منهم الليث بن سعد، والعز بن عبدالسلام، والإمام الشافعي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، والإمام الشاطبي ... وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله، المحادون لله ورسوله، المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت؛ لقضى ذلك إلى زوال دين الإسلام، ودروس شرائعه، أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم في هذا الوقت هم المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولًا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (¬15)، وفي رواية لمسلم: «لا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ» (¬16). والنبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية، فغربه ما يغرب عنها، وشرقه ما يشرق عنها، ولهذا قال أحمد بن حنبل -رحمه الله-: «أهل الغرب هم أهل الشام (¬17) .. إلى أن قال: فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه .. إلى آخر ما قاله -رحمه الله-» (¬18) (¬19).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) معجم البلدان لياقوت الحموي (8/ 272 - 273).
(¬2) برقم 2543.
(¬3) وفي الوقت المعاصر أصبح اسمها الفرما، ومكانها اليوم تل الفرما بعد بور سعيد بعدة كيلومترات.
(¬4) وهي اليوم تعرف باسم قرية الشيخ عبادة التابع لقرية الروضة، تقع إلى شرق النيل عند مركز مدينة ملوي في محافظة المنيا جنوب مصر، في الشرق. تمتد هذه القرية كشريط من الشمال إلى الجنوب بطول (3) كلم على النيل، وتقع على بعد (300) كلم من القاهرة إلى المنيا، وفيها يقع مسجد عبادة الذي سمي باسم الصحابي الجليل عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، وهو نفسه الذي باسمه تُعرف القرية.
(¬5) (23 - 265) برقم 561، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم 3113.
(¬6) عيون الأثر، لابن سيد الناس ص 350.
(¬7) عيون الأثر، لابن سيد الناس ص 351.
(¬8) الروض الأُنف، للسهيلي (4/ 390).
(¬9) صحيح البخاري برقم 3207، وصحيح مسلم برقم 164.
(¬10) ويقع في سيناء.
(¬11) تفسير ابن كثير -رحمه الله- (14/ 395)، ويقع جبل الطور في سيناء أيضًا.
(¬12) بدائع التفسير لابن القيم -رحمه الله- (5/ 269).
(¬13) تفسير الطبري -رحمه الله- (5/ 4265).
(¬14) الجامع لأحكام القرآن (9/ 316).
(¬15) صحيح البخاري برقم 3641، وصحيح مسلم برقم 1920 واللفظ له.
(¬16) برقم 1925.
(¬17) مناقب الشام وأهله، لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ص 79 - 80.
(¬18) مجموعة الفتاوى (28/ 531 - 534).
(¬19) فضائل مصر ومزايا أهلها، د. محمد بن موسى الشريف.