[عودة] الكلمة الثلاثون: دعاء القنوت
الكلمة الثلاثون: دعاء القنوت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
روى أبو داود في سننه من حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في الوتر: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» (¬1). زاد ابن خزيمة: «لَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ» (¬2).
ويشرع القنوت قبل الركوع وبعده، ففي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه سُئل: أقنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أَوَقنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيرًا (¬3).
وروى ابن أبي شيبة من حديث إبراهيم عن علقمة، أن ابن مسعود وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع (¬4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين – أي القنوت قبل الركوع وبعده – لمجيء السُّنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس، فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده، فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه» (¬5).
والسُّنة في القنوت في الوتر أنه يفعله أحيانًا، ويتركه أحيانًا، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقنت في ركعة الوتر (¬6)، ويجعله قبل الركوع (¬7).
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «وإنما قلنا أحيانًا لأن الصحابة الذي رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان -صلى الله عليه وسلم- يفعله دائمًا لنقلوه جميعًا عنه، نعم رواه عنه أُبي بن كعب وحده، فدل على أنه كان يفعله أحيانًا، ففيه دليل على أنه غير واجب، وهو مذهب جمهور العلماء» (¬8).
روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث عبدالرحمن القاريء – وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال –: أن عمر خرج ليلة في رمضان، فخرج معه عبدالرحمن القاريء، فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم على ذلك، وأمر أُبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان، فخرج عمر عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر -رضي الله عنه-: نِعْمَ البدعة هي، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون – يريد آخر الليل –، فكان الناس يقومون أوله، وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: «اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنه الكفرة وصلاته على النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات، ومسألته، قال: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك، إن عذابك لمن عاديت ملحق، ثم يكبر ويهوي ساجدًا» (¬9).
وروى البيهقي بسنده إلى عبيد بن عمير أن عمر -رضي الله عنه- قنت بعد الركوع فقال: «اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، ولك نسعى ونحفد، نخشى عذابك، ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق» (¬10).
وروى البيهقي كذلك بسنده إلى عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه قال: «صليت خلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صلاة الصبح فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكافرين ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع من يكفرك» (¬11).
«تنبيهات فيما يُجتنب في دعاء القنوت?
التلحين والتطريب والتغني في طلب الدعاء مما ينافي الضراعة والابتهال إلى الله، ويخشى على من فعل ذلك أن يقع في الرياء والعجب.
يُجتنب أدعية مخترعة لا أصل لها، فيها غرابة في مفرداتها، حتى إن الإمام ليتكلف في حفظها.
يجتنب التزام أدعية وردت في روايات لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن في سندها كذابًا أو متهمًا بالكذب أو ضعيفًا لا يقبل حديثه. منها ما يروى عن أنس مرفوعًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، إلى أن قال: يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار .. الحديث. أخرجه الطبراني في الأوسط بسند فرد فيه من لا يعرف، وهو شيخ الطبراني، وتدليس أحد رواته مع ثقته.
ويجتنب قصد السجع في الدعاء، والبحث عن غرائب الأدعية المسجوعة على حرف واحد، روى البخاري في صحيحه من حديث عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال له: «فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك- يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب» (¬12). ومن الأدعية المخترعة المسجوعة: اللهم ارحمنا فوق الأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض.
ويجتنب اختراع أدعية فيها تفصيل أو تشقيق في العبارة لما تحدثه من تحريك العواطف، والبكاء، والضجيج، ومنه تضمين الاستعاذة بالله من عذاب القبر ومن أهوال يوم القيامة أوصافًا وتفصيلات يخرج عن مقصود الاستعاذة والدعاء إلى الوعظ، والتخويف، والترهيب، كقول بعضهم وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل وحدنا، وفارقنا الأحباب، والأصحاب، وربما كان له حكم الكلام المتعمد غير المشروع في الصلاة فيبطلها.
ويجتنب التطويل بما يشق على المأمومين، وخاصة إن كثيرًا من الأدعية تتكرر، فينبغي الاختصار والحرص على جوامع الأدعية.
أن يبتعد عن التكلف بالدعاء والاعتداء فيه، فعلى سبيل المثال: بعضهم إذا دعا يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ثم يبدأ بالحاضرين من المصلين والحاضرات من المصليات، ثم من بنى المسجد وأشرف عليه، ثم مرضى المسلمين، ثم جيران المسجد، ثم المشايخ والعلماء ... وهكذا إلى سلسلة لا تنتهي، وكان يكفيه أن يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، واشف مرضى المسلمين، وأصلح أحوالهم.
أن يبتعد في دعائه عن أساليب الصحافة والإعلام، فيقول بعض الداعين للأمة الإسلامية .. وهي ترفل في ثوب الصحة والعافية، فمادة رفل مدارها على التبختر والخيلاء. كما في الحديث المرفوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ الرَّافِلَةِ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ لَا نُورَ لَهَا». رواه الترمذي (¬13)، والرافلة أي المتبخترة.
أن يأتي الإمام بأدعية ليس لها صفة العموم، بل تكون خاصة بحال ضر أو نصرة .. أو نحو ذلك، مثل الدعاء بدعاء نبي الله موسى -عليه السلام-: واجعل لي وزيرًا من أهلي .. إلى آخر الآيات، ومنه دعاء الإمام بمن معه: اللهم أحينا ما كانت الحياة خيرًا لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي .. الحديث» (¬14). وترجم النووي -رحمه الله- في كتابه الأذكار بقوله: باب كراهية تمني الموت لضر نزل بالإنسان، وجوازه إذا خاف فتنة في دينه (¬15).
هناك بعض الضوابط للدعاء المشروع في قنوت الوتر، فمن ذلك:
أن على الإمام أن يتقيد في دعاء القنوت باللفظ الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي علمه سبطه الحسن بن علي وسبق ذكره، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت عن بعض الصحابة في آخر قنوت الوتر، منهم أُبي بن كعب، ومعاذ الأنصاري .. وغيرهم.
أن يحرص الإمام على أداء الدعاء بالكيفية الشرعية بضراعة وابتهال، وصوت يبعد عن التلحين، والتطريب.
إن زاد على اللفظ المذكور، فعليه مراعاة خمسة أمور:
أن تكون الزيادة من جنس المدعو به في دعاء القنوت المذكور.
أن تكون الزيادة من الأدعية العامة في القرآن والسُّنة.
أن تكون الزيادة بعد القنوت الوارد في حديث الحسن.
أن لا يتخذ الزيادة فيه شعارًا يداوم عليه.
أن لا يطيل إطالة تشق على المأمومين.
قد يحصل من الأمور العارضة ما يأتي لها الداعي من إمام وغيره بدعاء مناسب لها، كالاستغاثة حال الجدب، لكن لا يجعله راتبًا لا يتغير بحال» (¬16).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) برقم 1425، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 267) برقم 1263.
(¬2) صحيح ابن خزيمة (1/ 119).
(¬3) صحيح البخاري برقم 1001، وصحيح مسلم برقم 677 باختلاف.
(¬4) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 97)، قال ابن حجر -رحمه الله- في الدراية (1/ 194) برقم 244: إسناده حسن، قال الشيخ الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل (2/ 166): وهذا سند جيد، وهو على شرط مسلم.
(¬5) الفتاوى (23/ 100).
(¬6) سنن الدارقطني (2/ 32) برقم 6.
(¬7) سنن أبي داود برقم 1427، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 268) برقم 1266.
(¬8) صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، للشيخ الألباني -رحمه الله- ص 179 باختصار.
(¬9) (2/ 155 - 156) برقم 1100، وأصله في صحيح البخاري برقم 2010 إلى قوله: يقومون أوله.
(¬10) سنن البيهقي (4/ 153) برقم 3186، قال البيهقي: صحيح موصول.
(¬11) سنن البيهقي (4/ 154) برقم 3187، قال البيهقي: إسناده صحيح، لكن من روى عن عمر قنوته بعد الركوع أكثر. وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في الإرواء (2/ 170 - 171).
(¬12) برقم 6337.
(¬13) برقم 1167، وضعفه الشيخ الألباني -رحمه الله- في ضعيف الجامع الصغير برقم 5236.
(¬14) صحيح البخاري برقم 6351، وصحيح مسلم برقم 268.
(¬15) ص 244.
(¬16) دعاء القنوت، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله- ص 5 - 20 بتصرف.