[عودة] الكلمة السادسة والأربعون التوسل المشروع والممنوع

الكلمة السادسة والأربعون
التوسل المشروع والممنوع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء].
فأما الآية الأولى: فقد قال إمام المفسرين ابن جرير في تفسيرها: «يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم، ووعد من الثواب وأوعد من العقاب، {اتَّقُوا اللَّهَ}، يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه» (¬1) .
ونقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معنى الآية: الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد والحسن، ونقل عن قتادة قوله فيها: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، ثم قال ابن كثير -رحمه الله-: «وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه، والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود» (¬2) .
وأما الآية الثانية، فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مناسبة نزولها التي توضح معناها، فقال: «نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون» (¬3) .
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهذا هو المعتمد في تفسير الآية» (¬4).) .
«والذي يظهر بعد تتبع ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة أن هناك ثلاثة أنواع للتوسل شرعها الله تعالى، وحث عليها، ورد بعضها في القرآن، واستعملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحض عليها، وليس في هذه الأنواع التوسل بالذوات، أو الجاهات، أو الحقوق، أو المقامات، فدل ذلك على عدم مشروعيته وعدم دخوله في عموم الوسيلة المذكورة في الآيتين السابقتين، أما الأنواع المشار إليها من التوسل المشروع فهي:
1 - التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا، كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أن تعافيني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي، ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الحب من صفاته تعالى.
ودليل مشروعية هذا التوسل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى، ولا شك أن صفاته العليا -عز وجل- داخلة في هذا الطلب؛ لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفات له، خصت به تبارك وتعالى.
ومن الأدلة أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد أدعيته الثابتة عنه فيما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- أنه - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول في تشهده: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» (¬5) .
2 - التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي، كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك، اغفر لي، أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيماني به أن تفرج عني، ومنه أن يذكر الداعي عملًا صالحًا ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه، وإيثار مرضاته على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه ليكون أرجى لقبوله وإجابته، وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [آل عمران]، وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران]، وأمثال هذه الآيات الكريمات.
ومن الأدلة: حديث قصة أصحاب الغار المشهورة والمخرجة في الصحيحين، فإن كل واحد منهم توسل إلى الله بعمله الصالح، فالأول توسل إلى الله ببره بوالديه، والثاني بعفته عن الزنا بابنة عمه، والثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فرقًا من أرز فنماها حتى كانت منها الشاة والبقر والإبل والرقيق (¬6) .
3 - التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح، كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه، فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلت عليه الشريعة المطهرة.
وقد وردت أمثلة على ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ (¬7) .
وفي رواية: «فقال عمر للعباس -رضي الله عنهما-: قم فاستسق وادع ربك» (¬8) .
ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أننا كنا نقصد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: اللهم بجاه نبيك اسقنا، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بجاه العباس اسقنا؛ لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم» (¬9) .
النوع الثاني: التوسل الممنوع:
«التوسل الممنوع وهو ما يسمى بالتوسل البدعي الذي لا أصل له في الدين، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا من عمل السلف الصالح.
فمن ذلك سؤاله تبارك وتعالى بجاه أحد من خلقه، كقول أحدهم: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أو بجاه عبدك فلان أن ترحمني، وتغفر لي.
أو سؤال الله تعالى بحق نبيه، أو بحق أحد من عباده كقولهم: اللهم إني أسألك بحق نبيك عليك، أو بحق فلان عندك أن ترحمني، وتغفر لي» (¬10) بتصرف.) .
«أو سؤال الله تعالى بحق البيت الحرام مغفرة الذنوب، أو قوله: اللهم بجاه الأولياء والصالحين، ومثل فلان بن فلان، أو بكرامة رجال الله عندك، وبجاه من نحن بحضرته فرج الهم عنا وعن المهمومين، واللهم إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة، متوسلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة أن تنصر الإسلام والمسلمين» (¬11).) .
«أو الإقسام على الله بالمتوسل به كقولهم: اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي.
وغيرها من الأسئلة والتوسلات غير الجائزة والممنوعة شرعًا، وهذا النوع من التوسل لم يرد في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد في فعل الصحابة رضوان الله عليهم الذين نقلوا لنا كل أقوال وأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬12) بتصرف.) .
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (¬13) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (¬14) .
تنبيه:
إذا وقع التوسل بمخلوق أو بجاه فلان مهما كانت منزلته مع الاعتقاد أن له شيئًا من الأمر من جلب نفع أو دفع ضر فهذا من الشرك الأكبر المخرج من دائرة الإسلام، بل هو من الشرك في ربوبية الله سبحانه، وأما بدون اعتقاد ذلك فهو ممنوع شرعًا لسد ذريعة الشرك.
وكذلك إذا وصل الأمر إلى الدعاء أو النذر أو الذبح لأرواح الأولياء والصالحين، والعكوف حول قبورهم، فلا شك أن هذا كفر أكبر مخرج من دائرة الإسلام، وصاحبه مخلد في النار إن لم يتب منه حتى لو زعم صاحبه أنه من المسلمين وصلى وصام.
قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________
(¬1) تفسير ابن جرير -رحمه الله- [4/ 2864].
(¬2) تفسير ابن كثير -رحمه الله- [3/ 103] بتصرف.
(¬3) صحيح مسلم برقم 3030.
(¬4) فتح الباري (10/ 12 - 13
(¬5) برقم 1493، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود [1/ 279] برقم 1324.
(¬6) صحيح البخاري برقم 2215، وصحيح مسلم برقم 2743.
(¬7) صحيح البخاري برقم 1010.
(¬8) تاريخ دمشق لابن عساكر [26/ 357].
(¬9) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص 13 - 44 بتصرف.
(¬10) أنواع وأحكام التوسل المشروع والممنوع للشيخ عبد الله الأثري ص (73، 79
(¬11) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص (9
(¬12) أنواع وأحكام التوسل المشروع والممنوع للشيخ عبد الله الأثري ص (73 - 79
(¬13) برقم 1718.
(¬14) صحيح البخاري برقم 2697، وصحيح مسلم برقم 1718.