[عودة] الكلمة الثالثة والأربعون الفطرة السليمة

الكلمة الثالثة والأربعون
الفطرة السليمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1) .
وخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال في خطبته: «أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: ... وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» (¬2) .
قال القرطبي -رحمه الله-: «إن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق، وقد جاء ذلك صريحًا في الصحيح، جبل الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين، وقد دل على صحة هذا المعنى بقية الخبر، حيث قال: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ يعني: أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلق، سليمًا من الآفات، فلو نزل على أصل تلك الخلقة لبقى خاليًا من العيوب، لكن يُتصرف فيه فيجدع أذنه، ويوسم وجهه، فتطرأ عليه الآفات والنقائص، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان. وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح (¬3) . أهـ
وقد ضرب الله تعالى مثلًا للفطر السليمة بالزيت الصافي النقي الذي يشع نورًا من صفائه، فإذا أُوقد به السراج التقى فيه النوران فأصبح نورًا على نور، وهذا مثل ضربه الله لنور الفطرة إذا التقى مع نور الوحي، وإليك الآيات فتدبر، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور].
وبهذا يتبين عظيم ما أنعم الله به على عباده إذ خلقهم حنفاء يحبون الحق ويؤثرونه ويميلون إليه ويقبلونه، لا يعرفون ربًّا إلا الله، ولا يعبدون إلا هو سبحانه، وهذا من عظيم رحمة الله وفضله، إذ قذف في قلوبهم هذا النور، ثم أمرهم بنور آخر هو نور الوحي يهدي الله لنوره من يشاء، ويتبع ذلك أن الله فطرهم على حب التنظف والتطهر وحسن الهيئة والسمت .. وغير ذلك من الأخلاق الجميلة.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ» (¬4) .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ (¬5) ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ». قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، زاد قتيبة: وقال وكيع: انتقاص الماء: يعني الاستنجاء (¬6) .
وهذه السنن التي فطر الله الناس عليها من جملة ما أنعم الله به على الإنسان ولا يخالفها إلا من فسدت فطرته، وتلوثت جبلته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ .. الحديث». ومثال ذلك:
مثل رجل لديه عبيد فأمرهم أن يعملوا في مزرعته فيعتنوا بأشجارها المثمرة، ويقطعوا منها الأشجار ذات الشوك والتي لا فائدة من بقائها، والأصلح للمزرعة إزالتها، فعكس هؤلاء العبيد الأمر، فجعلوا يقطعون الأشجار المثمرة ويربون الأشجار الشوكية الضارة، فما ظنك ما يكون جزاؤهم عند سيدهم ومولاهم، فالذين يعفون لحاهم ويقصون شواربهم استجابة لنداء الفطرة وامتثالًا لأمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء عباد الله حقًّا، وأما الذين عكسوا الأمر فمثلهم مثل أولئك العبيد الذين يقطعون الأشجار المثمرة ويتركون الضارة، فهذا دليل على فساد الفطرة، وإن الشياطين استهوتهم فاستحلوا الحرام، وحرموا الحلال، فليتوبوا وليرجعوا إلى ربهم ما داموا في زمن المهلة قبل انتهاء الأجل، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم 1359، وصحيح مسلم برقم 2658.
(¬2) صحيح مسلم برقم 2865.
(¬3) المفهم للقرطبي [6/ 676] بتصرف.
(¬4) برقم 5889، وصحيح مسلم برقم 257.
(¬5) غسل البراجم: قال النووي -رحمه الله-: سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، والبراجم بفتح الباء، وبالجيم، جمع برجمة بضم الباء والجيم، وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها، قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وهو الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار، ونحوهما. والله أعلم. شرح صحيح مسلم [3/ 141].
(¬6) برقم 261.