[عودة] الكلمة الثامنة عشرة الإقامة في بلاد الكفار
الكلمة الثامنة عشرة
الإقامة في بلاد الكفار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
1 - فإن «كلام أهل العلم المتقدمين وبحوثهم بوجوب الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وما يستحب من ذلك أو يباح كان في واقع غير الواقع المعاصر، فقد كانت الخلافة الإسلامية التي يأوي إليها كل مسلم قائمة، وبلاد المسلمين كلها بلد واحد، فأينما تيمم المسلم في بلاد الإسلام فهو في بلده لا يحس بغربة ولا يشعر بوحشة.
أما اليوم فإن بعض المسلمين يفر بدينه من بلده لما يقع عليه من الاضطهاد في دينه ودنياه، وربما وجد في تلك البلاد التي فرَّ اليها حياة كريمة وتمتعًا في الحقوق، وحرية في إقامة شعائر دينه قد لا توجد في غالب الدول الإسلامية» (¬1) ، فإلى الله المشتكى من غربة الدين، وقلة الناصرين، وتسلط الظالمين.
2 - إن هذه المسألة وما شابهها لا يمكن تنزيل حكمها على العموم لاختلاف أحوال الناس، فلكل فرد حكمه الذي يخصه بحسب واقعه وحاله على حد قوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء]. فواجد الحيلة غير فاقدها، والقوي غير الضعيف، والغني غير الفقير، وذو العصبة غير الكلالة (¬2) . وهكذا تختلف الأحكام باختلاف الأحوال، وتختلف من جانب آخر، وهو أنها ترجع إلى قواعد تحتاج في تطبيقها على الوقائع إلى النظر الدقيق والفهم الثاقب، والإلمام التام مثل قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وقاعدة «دفع أعظم الضررين بفعل أدناهما» .. وغيرها.
3 - مما يعين على الوصول إلى معرفة القول الصائب، المقارنة بين حال الشخص في تلك البلاد الكافرة، وحاله في بلده، فيرجح منهما أكثر الحالين نفعًا وأقلهما ضررًا.
4 - مما يعين على ذلك معرفة حال تلك الدول الكافرة، فمنها دولٌ المسلمون فيها كثير لهم ثقلهم واعتبارهم، مساجدهم عامرة، وشعائرهم ظاهرة، ومنها دول بخلاف ذلك.
5 - النظر الدقيق والفهم العميق للنصوص الشرعية والسيرة النبوي يقضي بالتفريق بين من كان من تلك البلاد الكافرة أصلًا ومولدًا، وبين الطارئ عليها، فلا يستوي من إذا خرج من تلك البلاد رجع إلى بلده بين أهله وذويه، وبين من إذا خرج فإنما يخرج من بلده إلى بلاد أخرى لا يمكنه دخولها، فضلًا عن الإقامة فيها إلا بشروط والتزامات لا تتهيأ إلا للقليل، فمن لاحظ ما تقدم وأمعن النظر لم يفته الصواب إن شاء الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت].
سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل:
ولدت في فرنسا وأعيش فيها إلى الآن، حيث أبلغ من العمر 26 سنة، أبواي تونسيان وأنا الآن متزوج ولي طفلان، الأول أربع سنوات، والثاني تسعة أشهر، أريد الهجرة إلى بلاد عربية من أجل مستقبل أبنائي خاصة، وللحفاظ على دينهم ولغتهم، كنت أنوي الاستقرار في تونس لأن جميع عائلتي هناك، وأبواي ينويان الرجوع إلى هناك، لكن المشكلة أن الحجاب هناك ممنوع منعًا باتًّا على المرأة المسلمة حتى في الشارع، وجميع أفراد عائلتي هناك قد استكرهوا على نزع الحجاب، كما أنه لا يجوز هناك اللقاءات أو الاجتماعات ذات الصبغة الدينية، حتى ولو كان ضمن حفلة زواج أو غيرها، والمسلمون هناك خاصةً الشباب منهم مضطرون للعيش فرادى وفي خوف دائم، حتى لمجرد الصلاة الدائمة في المسجد.
لذلك فالعيش هناك بالنسبة لي ولزوجتي التي ترتدي الحجاب يعتبر مستحيلًا؛ لأنه حتى بالنسبة لأبنائي لا أضمن لهم أن يتعلموا دينهم هناك على قواعد صحيحة، وعندما أرجع وأفكر
في وضعي الحالي وكيف أني أعيش في بلاد الكفار أجد نفسي معلقًا بين الأرض والسماء، ولا عندي حل يريحني؛ لأني لا أعرف هل الهجرة في هذه الحال واجبة أم لا؟ أرجو إفادتي جزاكم الله كل خير بأحاديث وآيات قرآنية أتخذ على أساسها القرار السليم، حتى لا أندم بعد ذلك أو أحس أنني أخطأت؟
الجواب: نشكرك أيها الأخ على هذا الإحساس والشعور الديني الذي هو واجب على كل مسلم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ونوصيك بتقوى الله تعالى في جميع أمورك، كما نفيدك بأن الإقامة في بلاد الكفار محرمة في الشريعة الإسلامية إلا لحاجة معتبرة شرعًا، كعلاج لا يوجد عند المسلمين أو دعوة إلى الإسلام .. ونحو ذلك، وعليك بالاجتهاد وبذل الأسباب التي تخلصك من البقاء في بلاد الكفار والانتقال إلى بلاد المسلمين، ولو إلى غير بلدك التي هي مسقط رأسك، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. وإذا كان حالك في فرنسا وتونس كما ذكرت ولم تتيسر لك الهجرة، فعليك تقوى الله في نفسك والتمسك بدينك والثبات عليه والمحافظة على شعائر الدين كالصلوات الخمس وغيرها، ودوام الالتجاء إلى الله أن يثبت قلبك، وعليك البعد عن مشاركة أهل السوء ومجالستهم، وإن وجدت أحدًا من المسلمين فلازم صحبته، كما عليك الدعوة إلى الله حسب الاستطاعة. نسأل الله الكريم لك التوفيق وأن ييسر لك الخير
أينما كنت، إنه ولي ذلك والقادر عليه (¬3) برقم 19581.) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبدالعزيز آل الشيخ ... عبدالعزيز بن باز
كما سُئل الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، يقول السائل:
ما هي نصيحتكم للإخوة والأخوات المقيمين في إنجلترا ولا يعملون ويتلقون معونة مالية من الحكومة؟ وأحيانًا هم يحصلون على عمل ولكن لا يخبرون الحكومة، فهل عملهم هذا يعتبر عملًا صحيحًا؟
الجواب: «الواجب على جميع المسلمين المقيمين في بلاد الكفر، أن يهاجروا إلى البلاد الإسلامية التي تقام فيها شعائر الله إذا استطاعوا ذلك، فإن لم يتيسر ذلك فإلى البلاد التي هي أقل شرًّا، كما هاجر جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى الحبشة؛ لأن بلاد الحبشة ذاك الوقت أقل شرًّا مما يقع على المسلمين في مكة من الشر قبل فتح مكة، فإن لم يستطيعوا فعليهم أن يتقوا الله في محلهم، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم، وأن يؤدوا ما أوجب الله عليهم، ولا حرج عليهم في قبول المعاونة والمساعدة من الدولة الكافرة، إذا لم يترتب على ذلك ترك واجب، أو فعل محظور، وليس لهم أخذ المساعدة إلا على الطريقة الرسمية التي قررتها الدولة، وليس لهم أن يكذبوا للحصول عليها، وعليهم جميعًا أن يتقوا الله في كل شيء، وأن يحذروا ما نهى الله عنه، وأن يتفقهوا في القرآن والسنة فيما بينهم، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، ولو بالمكاتبة أو من طريق الهاتف، أصلح الله أحوال المسلمين جميعًا وحفظ عليهم دينهم ومنحهم الفقه فيه، وكفاهم شر أنفسهم وشر أعدائهم، إنه جواد كريم» (¬4).) .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) فقه النوازل للأقليات المسلمة للدكتور محمد يسري [2/ 1094] بتصرف.
(¬2) ذو العصبة هو الذي له أقارب من قومه أو من بلده يعينونه ويحمونه، والكلالة: الذي ليس له أحد يمنعه.
(¬3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/ 455 - 456
(¬4) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- (28/ 238 - 239