[عودة] الكلمة الأربعون: وقفة مع قوله تعالى
الكلمة الأربعون: وقفة مع قوله تعالى
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} الآية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإِنّ الله أنزل هذا القرآن لتدبُّره والعمل به، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا} هنا الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يتأتى خطابه، فهو مأمور بالبشارة إن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكل من خلفه في العلم والدعوة فإنه يمكن أن يقول هذه البشارة، وهي الإخبار بما يسر، وهنا المُبشَّر هم المؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والمُبشَّر به جنات تجري من تحتها الأنهار، والمُبشِّر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والآمر بالتبشير هو الله تعالى.
وقوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: جمعوا بين الاستسلام الباطن، وهو الإِيمان، والاستسلامُ الظاهر، وهو العمل الصالح، وجمعوا بين الإِخلاص في القلب، وهو أمر باطن، والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أمر ظاهر، فالبشرى لمن جمع بين الأمرين.
وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: بساتين جامعة للأشجار، وسميت جنة لأنها تجن من فيها، أي تستره لكثرة أشجارها وأغصانها.
والمراد هنا: دار النعيم التي أعدَّها الله للمتقين، والأنهار التي تجري من تحتها أي من أسفلها وتحت القصور والأشجار، وهي أربعة أصناف ذكرها الله بقوله: {مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] الآية (¬1).
وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، لأنه يشبهه في اللون والحجم، ولكنهم إذا طعموه تبين لهم أنه غيره، وهذا من تمام لذة الآكلين إذا أتوا بالطعام أو بالثمر متشابهًا، ولكنه يختلف في الذوق، حيث صار هذا من تمام اللذة وكمال النعمة.
وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، قال مجاهد: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬2).
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْطَى قُوَّةَ مِئَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ».
فقال رجل من اليهود: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «حَاجَةُ أَحَدِهِم عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جِلْدِهِ فَإِذَا بَطْنُهُ قَدْ ضَمَر» (¬3).
وقوله: {فِيهَا خَالِدُونَ} هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فهو نعيم سرمدي أبدي.
ومن فوائد الآية الكريمة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه: من أحكام القرآن:
أَولاً: أنه ينبغي أن يبشر العامل بما يستحق من الثواب، لأن ذلك أبلغ في نشاطه ومثابرته على العمل.
ثانيًا: أن البشرى بالجنة لا تكون إلا لمن آمن وعمل صالحًا، فمجرد العقيدة لا تكفي للبشارة بالجنة؛ بل لا بد من إيمان وعمل، ولهذا يربط الله تعالى دائمًا الإِيمان بالعمل الصالح.
ثالثًا: أن في الجنة أنهارًا وثمارًا، ولكنها تختلف عما في الدنيا اختلافًا عظيمًا لا يمكن أن يدركه الإِنسان بحسه في الدنيا كما قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}» (¬4).
رابعًا: أن في الجنة أزواجًا مطهرة يتلذذ الإِنسان بهن، ويتمتع بهن كما قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58]، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 55 - 56].
وهذا يدل على أنهم يتلذذون بهذه الزوجات في الجلوس على الأرائك والاتكاء عليها، مع تقديم الفواكه من الولدان والخدم.
خامسًا: أن أهل الجنة خالدون فيها، وقد بينت الآية الأخرى أن هذا الخلود خلود أبدي: قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: 108] (¬5).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) من أحكام القرآن للشيخ ابن عثيمين (ص128).
(¬2) صحيح البخاري برقم (2796)، وصحيح مسلم برقم (1880).
(¬3) مسند الإمام أحمد (32/ 65) برقم (19314)، وقال محققوه: حديث صحيح.
(¬4) صحيح البخاري برقم (3244)، وصحيح مسلم برقم (2824).
(¬5) أحكام القرآن للشيخ ابن عثيمين (ص130 - 134).