[عودة] الكلمة الرابعة عشرة زيارة القبور
الكلمة الرابعة عشرة
زيارة القبور
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأصله في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلا فَزُورُوهَا،، فَإِنَّهُ يَرِقُّ الْقَلْبَ، وَتَدْمَعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وَلا تَقُولُوا هَجْرًا» (¬1) .
«فهذا الحديث يدل على مشروعية زيارة القبور للاتعاظ، وتذكر الآخرة، شريطة ألا يقول عندها ما يغضب الرب سبحانه كدعاء المقبور، والاستغاثة به من دون الله تعالى أو تزكيته والقطع له بالجنة» (¬2) .
قال النووي -رحمه الله-: «الهجر كلام الباطل، وكان النهي أولًا لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه، أُبيح لهم الزيارة، واحتاط -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ولا تقولوا هجرًا» (¬3) .
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً، وَلا تَقُولُوا مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ» (¬4) .
قال الصنعاني عقب أحاديث الزيارة: «الكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها، وأنها للاعتبار، فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعًا» (¬5).) .
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز زيارة القبور للرجال والنساء، فقد ورد في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-: أَنّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، مَرَّ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتْقِي الله، واصْبِرِي» (¬6) .
قال الحافظ في فتح الباري -رحمه الله-: «وموضع الدلالة منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة (¬7).) » أهـ
وذهب جمع من أهل العلم إلى المنع، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «لَعَنَ الله زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» (¬8) .
وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن، وهذا ما تفتي به اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية (¬9) برقم 1981.) .
والمقصود من زيارة القبور شيئان:
«1 - انتفاع الزائر بذكر الموت والموتى، وأن مآلهم إما إلى جنة، وإما إلى نار، وهو الغرض الأول من الزيارة كما يدل عليه ما سبق من الأحاديث.
2 - نفع الميت والإحسان إليه بالسلام عليه، والدعاء والاستغفار له، وهذا خاص بالمسلم وفيه أحاديث أشير إلى بعضها:
الأول: رواه أحمد في مسنده من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، فسألته عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك، فقال: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ لَهُمْ» (¬10) .
والثاني عنها أيضًا: أنها قالت: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ أي عند زيارة القبور - قال: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ الله الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» (¬11) .
والثالث: رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: «السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ الله بِكُمْ للاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» (¬12) (¬13) .
ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه صلى على قبره، لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها؟ فقالوا ماتت، فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟» قال: فكأنهم صغروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» (¬14) .
ومن البدع والشركيات التي تحصل عند القبور، وأشير إلى بعضها:
1 - الذبح والنحر عند القبور، وهو من أعظمها، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود في سننه من حديث أنس: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» (¬15) .
قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة، أو شاة، قال النووي -رحمه الله-: «وأما الذبح والعقر عند القبر فمذموم لحديث أنس هذا» (¬16) أهـ
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «وهذا إذا كان الذبح هناك للَّه تعالى، وأما إذا كان لصاحب القبر كما يفعله بعض الجهال فهو شرك صريح، وأكله حرام وفسق، كما قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]» (¬17) .
2 - رفع القبور زيادة على التراب الخارج منها، وطليها بالكلس وهو مادة طلاء، وفي صحيح مسلم من حديث علي -رضي الله عنه- أنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته (¬18) .
3 - الكتابة عليها.
4 - البناء عليها وتزيينها بالرخام ونحوه لأن ذلك من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة؛ لأن الجهال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر تعلقوا به.
5 - القعود عليها، وفي ذلك أحاديث منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (¬19) ، أو يزاد عليه (¬20) [- أو يكتب عليه -] (¬21) لأن تعظيم القبور بالبناء عليها ونحوه هو أصل شرك العالم.
6 - الصلاة عندها ولو بدون استقبال القبلة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» (¬22) .
7 - بناء المساجد عليها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَعْنَةُ الله عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (¬23) .
8 - السفر وشد الرحال لزيارة القبور لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (¬24) .
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «والحديث عام يشمل المساجد وغيرها من المواطن التي تقصد لذاتها، أو لفضل يدعى فيها، ألا ترى أن أبا بصرة -رضي الله عنه- قد أنكر على أبي هريرة سفره إلى الطور وليس هو مسجدًا يصلى فيه، وإنما هو جبل كلم الله فيه موسى -عليه السلام-، فهو جبل مبارك، ومع ذلك أنكر أبو بصرة السفر إليه» (¬25) .
9 - إيقاد السرج عندها: أي إضاءتها بالأنوار الكهربائية وغيرها، والدليل على ذلك أنه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلُّ ضَلالَةٌ فِي النَّارِ» (¬26) برقم 1487 وأصله في صحيح مسلم.) ، وفيه أيضًا إضاعة المال وهو منهي عنه، قال ابن حجر الفقيه: «وصرح أصحابنا بحرمة السراج على القبور وإن قل، حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر، وعللوه بالإسراف، وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس، فلا يبعد أن يكون كبيرة» (¬27) .
10 - تحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» (¬28) .
11 - قراءة القرآن عند القبر وهو من البدع لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته الكرام، وكل بدعة ضلالة.
12 - تخصيص المواسم والأعياد والجُمع لزيارة القبور، وهو من البدع، وكل بدعة ضلالة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) [1/ 711] برقم 1433، وقال محققوه: هو حديث حسن صحيح.
(¬2) أحكام الجنائز وبدعها للشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص 227.
(¬3) المجموع [5/ 310].
(¬4) مسند الإمام أحمد [3/ 38] ومستدرك الحاكم [1/ 708] برقم 1426، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في أحكام الجنائز وبدعها، ص 228: وهو كما قالا.
(¬5) سبل السلام (3/ 320 - 321
(¬6) صحيح البخاري برقم 1283، وصحيح مسلم برقم 926.
(¬7) فتح الباري (3/ 148 - 149
(¬8) برقم 1056 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(¬9) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 102 - 103
(¬10) [43/ 240] برقم 26148، وقال محققوه: حديث حسن.
(¬11) صحيح مسلم برقم 974.
(¬12) صحيح مسلم برقم 975.
(¬13) أحكام الجنائز وبدعها للشيخ الألباني -رحمه الله-، ص 239 - 240 بتصرف.
(¬14) صحيح البخاري برقم 458، وصحيح مسلم برقم 956.
(¬15) سنن أبي داود برقم 3222، وأحمد في مسنده [3/ 197]، قال الألباني في أحكام الجنائز ص 1259: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(¬16) المجموع [5/ 320].
(¬17) أحكام الجنائز وبدعها، ص 259 - 260.
(¬18) برقم 969.
(¬19) صحيح مسلم برقم 970.
(¬20) سنن أبي داود برقم 3226 وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود [2/ 621] برقم 2763.
(¬21) سنن أبي داود برقم 3226، وصححه الألباني -رحمه الله- كما في سنن أبي داود [2/ 621] برقم 3763.
(¬22) صحيح مسلم برقم 970.
(¬23) قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم 531.
(¬24) صحيح البخاري برقم 1189، وصحيح مسلم برقم 1397 واللفظ له.
(¬25) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل [4/ 143].
(¬26) سنن النسائي برقم 1578 وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن النسائي (1/ 345 - 346
(¬27) الزواجر [1/ 134].
(¬28) برقم 971.