[عودة] الكلمة الحادية عشرة: الإتقان

الكلمة الحادية عشرة: الإتقان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد أخبر سبحانهأنه خلق هذا الكون بسمائه، وأرضه، وجباله، ونجومه وخلقه من الجن والإنس، وأتقن ذلك كله، قال تعالى: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} [يس:40]. وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون} [النمل:88].
وقال تعالى عن الإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} [التين:4]. وقال تعالى عن الخلق: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7].
وقال عن كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [هود:1].
والإتقان هو عمل الشيء على أحسن وجه، وقد وردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي تَحُثُّ المسلم على الإتقان في عبادته، وعمله وسائر شؤونه الدينية، والدنيوية، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]. روى أبو يعلى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ» (¬1).
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ» (¬2).
والمتأمِّل في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم يَجِدُ أَنَّ عِبَادَتَهُ مُتقَنَةٌ. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: مَا كَانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ (¬3).
وحثَّ أُمَّته على إتقان العبادة، فقال: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خَمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا» (¬4).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا» (¬5).
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا حفظوا آيات من القرآن لم ينتقلوا إلى غيرها حتى يتقنونها شرحًا وعملًا.
روى ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشرَ آيَاتٍ، لَم يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالعَمَلَ بِهِنَّ (¬6).
وفرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين العمل المتقن وغير المتقن. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ» (¬7).
وليعلم أن الأجير لا يستحق أجرته، إلا إذا أدى عملًا كاملًا متقنًا، فإن نقص الإتقان نقصت الأجرة.
وأداء العمل كاملًا متقنًا من الأمانة التي أُؤتمن عليها المؤمن ولا يلزم من إتقان العمل أن يأخذ وقتًا طويلًا، فقد يتقن العمل بوقت قصير، وقد حدث هذا لزيد بن ثابت. روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده من حديث خارجة بن زيد: أن أباه أخبره أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال زيد: ذُهب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأُعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأَعجَب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي» قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ (¬8).
وقد يحتاج الإتقان إلى وقت طويل بحسب طبيعة العمل، فقد مكث ابن حجر في تأليف كتابه (فتح الباري) خمسة وعشرين عامًا، وابن عبد البر مكث في تأليف كتابه (التمهيد) ثلاثين عامًا، وطاف ابن حنبل الدنيا مرتين من أجل جمع المسند وأحاديثه ثلاثون ألف حديث، وقد انتقاه من سبع مئة ألف حديث، والبخاري رحمه الله أتقن ترتيب كتابه صحيح البخاري على الأبواب الفقهية أيما إتقان، وكان لا يضع حديثًا حتى يصلي ركعتين.
ومن فوائد الإتقان:
1 - براءة الذمة بالقيام بالعمل متقنًا من غير نقص، ولا خلل.
2 - الحصول على محبة الله لأن الله يحب العمل المتقن.
3 - أن كل إنسان مؤمن لو قام بالعمل الذي كُلِّف به متقنًا له، لما وصلت الأمة الإسلامية إلى التأخُّر الذي نعيشه هذه الأيام.
4 - أن كل إنسان يعمل بجد يجد ثمرة عمله، والكفار لما أتقنوا أمورهم الدنيوية من صناعة الأجهزة، والأسلحة الحديثة، وغيرها وصلوا إلى ما يريدون، قال تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20].
5 - أن العمل القليل المتقن خير من العمل الكثير الذي لم يتقن، فالإتقان أهم من الكثرة، وهذا ينطبق على كل عمل من أعمال الدنيا والآخرة.
6 - استحقاق الأجرة ظاهرًا وباطنًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) برقم 4386، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1113.
(¬2) برقم 943.
(¬3) صحيح البخاري برقم (3569)، وصحيح مسلم برقم (738).
(¬4) سنن أبي داود برقم (796)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 151) برقم (714).
(¬5) صحيح البخاري برقم (160)، وصحيح مسلم برقم (227).
(¬6) تفسير الطبري (1/ 95).
(¬7) صحيح البخاري برقم (4937)، وصحيح مسلم برقم (798) واللفظ له.
(¬8) سنن أبي داود برقم (3645)، ومسند الإمام أحمد (35/ 490) برقم (21618) واللفظ له، وقال محققوه: إسناده حسن.