[عودة] الكلمة السادسة والتسعون: الإنابة
الكلمة السادسة والتسعون: الإنابة
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فإن الإنابة من العبادات العظيمة التي وصف الله بها أنبيائه وعباده المؤمنين، قال تعالى عن نبي الله داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب (24)} [ص: 24]. وقال تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاب (34)} [ص: 34]. وقال تعالى عن نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (88)} [هود: 88]. وقال تعالى عن نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (10)} [الشورى: 10]. وأثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام لاتصافه بالإنابة إليه والرجوع إليه في كل أمر، قال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب (75)} [هود: 75]. وأمر الله بها عباده فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]. والصالحون من عباد الله يقولون: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير (4)} [الممتحنة: 4].
قال ابن القيِّم رحمه الله: «الإنابة: الإسراع في مرضاة الله مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له، وقال أيضًا: الإنابة إلى الله إنابتان: الأولى: إنابة إلى ربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها، المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]. والثانية: إنابة أوليائه، وهي: إنابة لألوهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه» (¬1). اهـ مختصرًا
والإنابة إلى الله سبحانه هي مفتاح السعادة، والهداية، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب} [الرعد: 27]. روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ (¬2)، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ، وَيَرْزُقَهُ اللهُ الْإِنَابَةَ» (¬3).
وأخبر سبحانه أن ثوابه، وجنته لأهل الخشية والإنابة، قَالَ تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيب (33)} [ق: 31 - 33].
وأخبر سبحانه أن البشرى لأهل الإنابة، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17].
ومن صفات العبد المنيب: الاعتبار بالآيات الدالة على عظمة الله تعالى، وعزته وسلطانه، قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب (8)} [ق: 6 - 8]. وقَالَ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيب} [غافر: 13].
والإنابة إلى الله مانعة من العذاب، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُون (54)} [الزمر: 54].
وقد أمر الله جميع الخلق بالإنابة والرجوع إليه، قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِين (31)} [الروم: 30 - 31].
وكان من دعاء النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن يرزقه الله الإنابة، روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي، وَيَسِّرِ الْهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبيِ» (¬4).
وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ بُرَيدَةَ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه قَالَ: «خَرَجَ بُرَيْدَةُ عِشَاءً، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا صَوْتُ الرَّجُلِ يَقْرَأُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: أَتَقُولُهُ مُرَائِيًا؟ فَقَالَ بُرَيْدَةُ: أَتَقُولُهُ مُرَائِيًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: لَا، بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ، لَا، بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ، فَإِذَا الْأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ بِصَوْتٍ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّ الْأَشْعَرِيَّ - أَوْ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ - أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ» (¬5).
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أكثر الناس إنابة إلى ربه، وكان من دعائه ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ومَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. أو لَا إِلَهَ غَيْرُكَ» (¬6).
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
¬_________
(¬1) «مدارج السالكين» (1/ 434).
(¬2) قوله: «فَإِنَّ هَوْلَ المُطَّلَعِ»: قَالَ السِّندِيُّ: مَكَانُ الاِطِّلَاعِ مِن مَوضِعٍ عَالٍ، يُقَالُ: مُطَّلَعُ هَذَا الجَبَلِ مِن مَوضِعِ كَذَا، أَي: مَأتَاهُ وَمَصعَدُهُ، يُرِيدُ بِهِ: مَا يُشرِفُ عَلَيهِ مِن سَكَرَاتِ المَوتِ وَشَدَائِدِهِ، فَشُبِّهَ بِالمُطَّلَعِ، وَعَلَّلَ النَّهيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَنَّاهُ لِقِلَّةِ صَبرِهِ وَضَجَرِهِ، فَإِذَا جَاءَ مُتَمَنَّاهُ، ازْدَادَ ضَجَرًا عَلَى ضَجَرٍ، وَيَستَحِقُّ بِذَلِكَ مَزِيدَ سَخَطٍ، وَلِأَنَّ السَّعَادَةَ فِي طُولِ العُمْرِ؛ لِأَنَّ الإِنسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِاكْتِسَابِ السَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ، وَرَأسُ مَالِهِ العُمْرُ. هَل رَأَيتَ تَاجِرًا يُضَيِّعُ رَأسَ مَالِهِ؟! «مسند الإمام أحمد» (22/ 427).
(¬3) «مسند الإمام أحمد» (22/ 426) (برقم 14564)، وقال محققوه: حسن لغيره.
(¬4) «سنن أبي داود» (برقم 1510). و «مسند الإمام أحمد» (3/ 452) (برقم 1997)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
(¬5) «مسند الإمام أحمد» (38/ 46) (برقم 22952)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
(¬6) «صحيح البخاري» (برقم 6317)، و «صحيح مسلم» (برقم 769).