[عودة] الكلمة السابعة والأربعون: المعجزات والكرامات في غزوة بدر

الكلمة السابعة والأربعون: المعجزات والكرامات في غزوة بدر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فلقد كانت غزوة بدر من معارك الإسلام الفاصلة، وقد تجلَّت فيها الكثير من المعجزات والكرامات العظيمة، فمن ذلك:
أولاً: سماع المشركين كلام النبي صلى اللهُ عليه وسلم وخطابه وهم أموات في القليب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي طلحة رضي اللهُ عنه: «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ (¬1) مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ، خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ (¬2)، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، يَا فُلاَنُ ابْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ: «أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا» (¬3).
ثانياً: تحديد مصارع القوم: روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال: كان عمر يحدثنا عن أهل بدر فقال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ، يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَؤُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ: فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ» (¬4).
ثالثاً: نزول المطر عليهم بالقدر الذي يحتاجونه من غير زيادة ولا نقصان: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللهُ عنه وهو يحدث عن ليلة بدر: «أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ - أي الترس - نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَدْعُو رَبَّهُ» (¬5).
قال ابن القيم رحمه الله: «أنزل الله عزَّ وجلَّ في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل» (¬6).
قال الشيخ محمد رشيد رضا: «لولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال؛ لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد - كما تقدَّم - وكانت الأرض دهاساً تسيخ فيها الأقدام أو لا تثبت عليها» (¬7).
رابعاً: استجابة الله لدعاء نبيه على من كان يؤذيه بمكة من كفار قريش حتى قتلوا مع إخوانهم الكفرة ببدر: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله رضي اللهُ عنه قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي، أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا (¬8) وَدَمِهَا وَسَلَاهَا (¬9) فَيَجِيءُ بِهِ ثُمَّ يُمْهِلُهُ، حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ رضي اللهُ عنها وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ»، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ ابْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ».
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً» (¬10).
خامساً: إعانة بعض المسلمين بالملائكة على أسر العدو: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللهُ عنه وفيه: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ (¬11) مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ (¬12) مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: فَأَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسَ وعَقِيلًا وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ» (¬13).
وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال يوم بدر: «هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَاسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ» (¬14). وفي رواية: «عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ» (¬15) (¬16).
سادساً: إنزال النعاس عليهم: قال تعالى {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11]. روى أبو يعلى في مسنده من حديث أبي طلحة رضي اللهُ عنه قال: «لَقَدْ سَقَطَ السَّيْفُ مِنِّي يَوْمَ بَدْرٍ لِمَا غَشِيَنَا مِنَ النُّعَاسِ. يقول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11]» (¬17).
قال ابن كثير: «يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمَّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم، وقلة عددهم ... إلخ» (¬18).
سابعاً: أن الله تعالى أراهم العدو أقل مما هم عليه: لتقوى قلوبهم على حربهم، ويشجعهم على مواجهتهم، قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُمُور (44)} [الأنفال: 44].
قال ابن جرير: «إذ يُري الله نبيه في منامه المشركين قليلاً، وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلاً، وهم كثير عددهم، ويقلل المؤمنين في أعينهم ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم» (¬19).
ثامناً: اختصاص أبي بكر وعلي بكرامة من الله، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللهُ عنه قال: «قِيلَ لِعَلِيٍّ وَلِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ: مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ، وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ الْقِتَالَ، أَوْ قَالَ: يَشْهَدُ الصَّفَّ» (¬20) (¬21).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) الأطواء: جمع طوي وهو البئر التي طويت وبُنيت بالحجارة، لتثبت ولا تنهار، فتح الباري (7/ 302).
(¬2) أي طرف البئر، الفتح (7/ 302).
(¬3) برقم 3979 وصحيح مسلم برقم 2875.
(¬4) برقم 2873.
(¬5) (2/ 260) برقم 948 وقال محققوه إسناده صحيح.
(¬6) زاد المعاد (3/ 175).
(¬7) تفسير المنار (9/ 509 - 510).
(¬8) الفرث: بقايا الطعام في الكرش، انظر المعجم الوسيط (2/ 678).
(¬9) السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه، وقيل هو في الماشية السلى، وفي الناس المشيمة. النهاية في غريب الحديث (2/ 396).
(¬10) برقم 520 وصحيح مسلم برقم 1794.
(¬11) قال في النهاية (1/ 284) الأجلح من الناس: الذي انحشر الشعر عن جانبي رأسه.
(¬12) أبلق: وهو ما كان فيه سواد وبياض. المعجم الوسيط (1/ 70).
(¬13) (2/ 260 - 261) برقم 948، وقال محققوه إسناده صحيح، وقال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه للمسند (2/ 194) إسناده صحيح.
(¬14) برقم 3995.
(¬15) الثنايا: إحدى الأسنان الأربع التي في مقدمة الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. المعجم الوسيط (1/ 102).
(¬16) النقع: الغبار. النهاية في غريب الحديث (5/ 109).
(¬17) (3/ 19) برقم 428 وقال محققه حسين سليم أسد إسناده صحيح.
(¬18) تفسير ابن كثير (2/ 291).
(¬19) تفسير ابن جرير (6/ 259).
(¬20) (2/ 411) برقم 1257 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط مسلم.
(¬21) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص57 - 64.