[عودة] الكلمة الثانية والثلاثون: تأملات في قوله تعالى

الكلمة الثانية والثلاثون: تأملات في قوله تعالى:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ... } الآية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين (24)} [التوبة: 24].
يقول تعالى آمراً رسوله أن يتوعد من آثر أهله، وقرابته، وعشيرته على الله ورسوله، وجهاد في سبيله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} ثم قال: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}: أي اكتسبتموها وحصلتموها، {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}: أي فسادها، ونقصها، وهذا يشمل جميع أنواع التجارات، والمكاسب، والأنعام، وغيرها، {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}: أي تحبونها لطيبها وحسنها، أي إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}، {فَتَرَبَّصُوا}: أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله، ولهذا قال: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} أي الخارجين عن طاعته، المُقَدِّمِينَ على محبة الله شيئاً من المذكورات، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله» (¬1).
روى البخاري في صحيحه من حديث زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْآنَ يَا عُمَرُ» (¬2).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس ابن مالك رضي اللهُ عنه، قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬3).
ومن فوائد الآية الكريمة:
أولاً: أن محبة الله ورسوله دليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (¬4).
ثانياً: أن طاعة الله ورسوله مقدمة على الأهل، والمال، والولد، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
ثالثاً: أن ترك الجهاد في سبيل الله والخلود إلى الأرض سبب لغضب الله ووقوع الذل على المسلمين، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل (38)} [التوبة: 38].
روى الإمام أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬5).
رابعاً: أن التكاسل عن الجهاد من صفات المنافقين، قال تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون (167)} [آل عمران: 167].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» (¬6).
خامساً: أن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله سبب لنجاة العبد من عذاب الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون (11)} [الصف: 10 - 11].
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن ابن جبر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» (¬7).
سادساً: أن الجهاد من أفضل الأعمال؛ ولذلك قرنه الله بمحبة الله ورسوله كما في الآية السابقة: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين (24)} [التوبة: 24]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» (¬8).
سابعاً: أن فيها الترغيب في الجهاد والزهد في الدنيا، فإن الأهل والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن، إنما هي متاع الدنيا الزائل، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب (14)} [آل عمران: 14]. وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (170)} [آل عمران: 169 - 170].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي ص309 بتصرف.
(¬2) صحيح البخاري برقم 6632.
(¬3) برقم 15 وصحيح مسلم برقم 44.
(¬4) برقم 16 وصحيح مسلم برقم 43.
(¬5) برقم 3462 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 42) برقم 11.
(¬6) برقم 1910.
(¬7) برقم 2811.
(¬8) برقم 2787 وصحيح مسلم 1876 مختصراً آخره.