[عودة] الكلمة العشرون: فوائد من قوله تعالى
الكلمة العشرون: فوائد من قوله تعالى
{وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُون}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُون (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (82)} [التوبة: 81 - 82].
قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى ذامّاً للمنافقين المتخلِّفين عن صحابة رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، وكرهوا أن يجاهدوا معه بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا: أي بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا: {تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ}، فقال تعالى: قل لهم نار جهنم التي تصيرون إليها لمخالفتكم أشد حراً مما فررتم منه من الحر، بل أشد حراً من النار في الدنيا لو كانوا يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول صلى اللهُ عليه وسلم في سبيل الله في الحر ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا، ولكنهم كما قال الآخر: كالمستجير من الرمضاء بالنار» (¬1).
ثم قال سبحانه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإذا انقطعت الدنيا، وصاروا إلى الله عزَّ وجلَّ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً» (¬2).
ومن فوائد الآية الكريمة:
أولاً: أن المنافقين في كل عصر وزمان دَيدَنُهُم تثبيط المؤمنين عن الجهاد، وأداء الطاعات مهما كانت يسيرة، كما قال تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 167].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [آل عمران: 168].
ثانياً: أن الله ذم المنافقين ليس بقعودهم عن الجهاد فقط، ولكن بفرحهم أيضاً بهذا التخلف، فإن الفرح بالمعصية أعظم من المعصية.
ثالثاً: أن الله قَدَّمَ الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في هذه الآية، وفي آيات أخرى، كما في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [التوبة: 41]. قال العلماء: وذلك لأهمية المال في دعم الجهاد، ولا يمكن أن يقوم الجهاد بدون مال.
رابعاً: دلَّت الآية الكريمة أن الفقيه هو الذي يتقي البلاء الأكبر بالأصغر، والمنافقون لما كانوا لا يفقهون عكسوا ذلك بفرارهم من حر الرمضاء إلى حر جهنم، وفي هذا المعنى يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].
فنار جهنم أشد وحرها أعظم من حر الدنيا، بل هي أضعاف نار الدنيا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ، جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» (¬3).
خامساً: أن من الكفار والعصاة من يرتكبون المعاصي والذنوب، وهم يضحكون، ويلعبون، ولكن هذا الضحك ينقلب يوم القيامة بكاء وحسرات، روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن قيس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَهلَ النَّارِ لَيَبكُونَ، حَتَّى لَو أُجرِيَتِ السُّفُنُ فِي دُمُوعِهِم لَجَرَت، وَإِنَّهُم لَيَبكُونَ الدَّمَ - يعني مكان الدمع -» (¬4).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن كثير (7/ 252).
(¬2) المصدر السابق (7/ 255).
(¬3) برقم 3265 وصحيح مسلم برقم 2843.
(¬4) (5/ 831) برقم 8827 وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 1679.