[عودة] الكلمة العاشرة: الشفاعة

الكلمة العاشرة: الشفاعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فمن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالشفاعة. وتنقسم إلى قسمين:
1 - شفاعة باطلة.
2 - شفاعة صحيحة.
الشفاعة الباطلة: هي ما يتعلق به المشركون في أصنامهم، حيث يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ (18)} [يونس: 18]. وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (3)} [الزمر: 3]. لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع كما قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين (48)} [المدثر: 48].
الشفاعة الصحيحة: وهي التي جمعت شروطاً ثلاثة:
الأول: رضا الله عن الشافع، الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف، عامة لجميع الناس من رضي عنهم ومن لم يرض عنهم، الثالث: إذنه في الشفاعة، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا عن الشافع والمشفوع له. قال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَاذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى (26)} [النجم: 26]. ولم يقل عن الشافع ولا المشفوع له ليكون أشمل. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)} [طه: 109]. وقال سبحانه: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى (28)} [الأنبياء: 28]. والآية الأولى تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شرطاً واحداً.
وللنبي صلى اللهُ عليه وسلم شفاعات كثيرة:
الشفاعة الأولى: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم لأهل الموقف حتى يُقضى بينهم بعد أن يعتذر عنها الأنبياء (آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، عليهم الصلاة والسلام) حتى تنتهي إليه، وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبداً إلا للرسول صلى اللهُ عليه وسلم وهي أعظم الشفاعات لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم.
الشفاعة الثانية: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوها وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط ووقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، ولكنهم إذا أتوا الجنة لا يجدونها مفتوحة حتى يشفع النبي صلى اللهُ عليه وسلم لهم أن يدخلوها. روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما قالا: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَاتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ». وفي آخر الحديث: «فَيَاتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ» (¬1).
الشفاعة الثالثة: وهي خاصة به صلى اللهُ عليه وسلم وهي لعمه أبي طالب فيشفع له في تخفيف العذاب. فقد ورد في الصحيحين من حديث العباس بن عبد المطلب رضي اللهُ عنه أنه قال للنبي صلى اللهُ عليه وسلم: مَا أغْنَيتَ عَن عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ، وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ (¬2) مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (¬3).
الشفاعة الرابعة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم فيمن استحق النار أن لا يدخلها وهي له ولسائر النبيين، والصديقين والمؤمنين، قال بعض أهل العلم: وهذه تُستفاد من دعاء الرسول صلى اللهُ عليه وسلم للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم، فإن من لازم ذلك أن لا يدخل النار كما قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» (¬4).
الشفاعة الخامسة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم لأناس قد دخلوا النار أن يخرجوا منها وهي له ولسائر النبيين، والصِّدِّيقين وغيرهم، والأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة. روى الترمذي في سننه من حديث عوف بن مالك رضي اللهُ عنه قال: قال صلى اللهُ عليه وسلم: «أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» (¬5) (¬6).
وقد ذكر ابن أبي العز رحمه الله في شرح العقيدة الطحاوية أنواعاً أخرى، فمن ذلك:
الشفاعة السادسة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة.
الشفاعة السابعة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم.
الشفاعة الثامنة: الشفاعة في أقوام ليدخلوا الجنة بغير حساب، ولا عذاب وهم السبعون ألفاً.
ويُخرج الله أقواماً بغير شفاعة بل بفضله ورحمته، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أصحاب النار. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَا تَرَونَهَا تَكُونُ إِلَى الحَجَرِ أَو إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيفِرُ وَأُخَيضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِ يَكُونُ أَبْيَضَ»، فَقَالوا: يَا رَسُول اللهِ كَأَنَكَ كُنْت تَرْعَى بالبَادِيَةِ؟ قَالَ: «فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (¬7) (¬8).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) برقم 195.
(¬2) الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب.
(¬3) صحيح البخاري برقم 3883 وصحيح مسلم برقم 209.
(¬4) صحيح مسلم برقم 920.
(¬5) برقم 2441 وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 295) برقم 1986.
(¬6) شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/ 168 - 179).
(¬7) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 4581 وصحيح مسلم برقم 183 واللفظ له.
(¬8) شرح العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي (1/ 283 - 294).