[عودة] الكلمة الثامنة: تأملات في قول الله تعالى

الكلمة الثامنة: تأملات في قول الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آيتين من كتاب الله ونتدبر ما فيهما من العظات والعبر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلا (57)} [النساء: 56 - 57]. يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصدَّ عن سبيله فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}؛ أي نُدخِلُهم فيها دخولاً يحيط بجميع أجرامهم كما قال تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُون (16)} [الزمر: 16].
قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}: أي احترقت احتراقاً تاماً بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. أي ليدوم لهم، قال بعضهم: الحكمة من ذلك أن الجلد موضع الإحساس بالألم فإذا احترق لم يعد هناك ألم فيبدل لهم جلوداً غيرها، قال بعض المفسرين: إنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة حتى يذوقوا العذاب (¬1)، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ضِرْسُ الْكَافِرِ أَوْ نَابُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ، مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ» (¬3)، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَعَرْضُ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرِقَانَ (¬4)، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ مِثْلُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّبَذَةِ» (¬5).
قال النووي: «هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدورٌ لله تعالى يجب الإيمان به لإخبار الصادق به» (¬6).
قوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}: أي لا يمتنع عليه ما يريد، حكيماً فيما يقضيه، ثم لما ذكر تعالى حال الأشقياء ذكر حال السعداء، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: أي الذين آمنوا بمحمد صلى اللهُ عليه وسلم، والقرآن، وجملة الكتب المرسلة، وبالقدر خيره وشره، وأطاعوا ربهم سندخلهم جنات، وهي البساتين الجامعة للأشجار تجري من تحتها الأنهار، أنهار الخمر واللبن والماء والعسل، {خَالِدِينَ}: أي مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير} [البروج: 11].
وقوله: {لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}: قال جمع من المفسرين: المطهَّرَة من طهرت من الحيض، والبول، والنفاس، والغائط، والمخاط، والبصاق، وكل قذر وأذى مما يكون في نساء الدنيا (¬7). وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «َولَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا - يعني الخمار - عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬8).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ (¬9)، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» (¬10).
وروى الدارمي في سننه من حديث زيد بن أرقم رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ» (¬11).
قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلا}: وصف سبحانه في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم، قال تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا (35)} [الرعد: 35]. ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود. قال تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُود (30)} [الواقعة: 30]. وبيَّن في مواضع أخرى أنها ظلال متعددة. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُون (41)}} [المرسلات: 41]. وبيَّن في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك. قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُون (56)} [يس: 56]. والأرائك جمع أريكة وهي السرير في الحجلة، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة.
وبيَّن تعالى أن ظل أهل النار ليس كذلك. قال تعالى: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب (30) لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَب (31)} [المرسلات: 29 - 31]. وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَال (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيم (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم (43) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيم (44)} [الواقعة: 41 - 44].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه يبلغ به النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَّمْدُود}» (¬12).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 121 - 122).
(¬2) برقم 2851.
(¬3) برقم 2852.
(¬4) ورقان جبل عظيم من جبال تهامة بين مكة والمدينة، والربذة قرية من قرى المدينة بها مات الصحابي الجليل أبو ذر رضي اللهُ عنه.
(¬5) (14/ 87) برقم 8345 وقال محققوه إسناده حسن.
(¬6) شرح صحيح مسلم (6/ 186).
(¬7) تفسير ابن كثير (1/ 63).
(¬8) برقم 2796.
(¬9) أي زوجات.
(¬10) صحيح البخاري برقم 3243؛ وصحيح مسلم برقم 2838 واللفظ له.
(¬11) (2/ 431) برقم 2825 وقال الألباني رحمه الله في المشكاة (3/ 1567): إسناده صحيح.
(¬12) برقم 4881؛ وصحيح مسلم برقم 2827.