[عودة] الكلمة الثالثة والتسعون: وقفات مع الأزمة المالية العالمية

الكلمة الثالثة والتسعون: وقفات مع الأزمة المالية العالمية
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
فإن من الذنوب العظيمة والجرائم الشنيعة التي حرمها اللَّه ورسوله ولعن فاعلها: الربا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: لعن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: «هُم سَوَاءٌ» (¬1).
وروى البخاري في صحيحه حديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنه في رؤيا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجاء فيه: «أَتَانِي اللَّيلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انطَلِق، وَإِنِّي انطَلَقتُ مَعَهُمَا، فَأَتَينَا عَلَى نَهرٍ - حسبت أنه كان يقول: - أَحمَرَ مِثلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهرِ رَجُلٍ سَابِحٌ يَسبَحُ، وِإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهرِ رَجُلٌ قَد جَمَعَ عِندَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسبَحُ مَا يَسبَحُ، ثُمَّ يَأتِي ذَلِكَ الَّذِي قَد جَمَعَ الحِجَارَةَ، فَيَفغَرُ لَهُ فَاهُ، فَيُلقِمُهُ حَجَراً، فَيَنطَلِقُ يَسبَحُ، ثُمَّ يَرجِعُ إِلَيهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلقَمَهُ حَجَراً، قَالَ: قُلتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَا: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيتَ عَلَيهِ يَسبَحُ فِي النَّهرِ وَيُلقَمُ الحِجَارَةَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا» (¬2).
ومن صور الربا المحرم، شراء الأسهم الربوبية، أو إيداع الأموال في البنوك، وأخذ الزيادة الربويّة التي يسمونها فوائد، أو الاقتراض من البنوك، ورد المبالغ إليها مع الزيادة الربوية، أو البطاقات الائتمانية التي تعطى للعميل لشراء الأغراض مقابل رسوم سنوية، وتسدّد قيمتها خلال فترة محدودة فإن تأخر حاملها عن السداد تحسب عليه فائدة عن كل يوم تأخير أو غير ذلك من الصور.
وبناء على ما تقدم فإن ما حدث من الأزمة المالية العالمية وما نتج عنه من إفلاس شركات، وبنوك عالمية، في الدول الكافرة وأمام هذا الحدث العظيم فإنا نحتاج إلى وقفات:
الوقفة الأولى: أن ما حصل من انهيارات اقتصادية، وأزمات مالية في تلك الدول إنما هو بسبب الربا الذي حرمه اللَّه ورسوله ولعن فاعله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279]. وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. والمحق بمعنى الإزالة أي يزيل الربا والإزالة يحتمل أن تكون إزالة حسية أو إزالة معنوية فالإزالة الحسية أن يسلط اللَّه على المرابين ما يتلف به أموالهم والمعنوية أن ينزع منه البركة فلا يستفاد منه (¬3). روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الرِّبَا وَإِن كَثُر فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى قُلٍّ» (¬4).
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله. وبذلك يعلم كل من له أدنى بصيرة أن البنوك الربوية ضد الاقتصاد السليم، وضد المصالح العامة، ومن أعظم أسباب الانهيار والبطالة ومحق البركات وتسليط الأعداء وحلول العقوبات المتنوعة والعواقب الوخيمة، فنسأل اللَّه أن يعافي المسلمين من ذلك وأن يمنحهم البصيرة والاستقامة على الحق (¬5).
الوقفة الثانية: أن ما أصاب هؤلاء الكفار إنما هو عقاب إلهي لما فعلوه من ظلم وجرائم ضد المسلمين كما حصل في أفغانستان، والعراق، وفلسطين والصومال، وغيرها من الدول، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون (36)} [الأنفال]. وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَاد (31)} [الرعد].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد (102)} [هود] (¬6).
وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِير (48)} [الحج].
وكم من المسلمين من يرفع يديه بالدعاء على هؤلاء الكفرة الظلمة؟! وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «دَعوَةُ المَظلُومِ تُحمَلُ عَلَى الغَمَامِ، وَتُفتَحُ لَهَا أَبوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنصُرَنَّكِ وَلَو بَعدَ حِينٍ» (¬7).
قال الشاعر:
لا تَظْلِمَنَّ إِذَا ما كُنْتَ مقتدراً
فالظلمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إِلى الندمِ
تنامُ عينُكَ والمظلومُ منتبهٌ
يَدْعُو عليكَ وعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ
الوقفة الثالثة: إن المعاصي والذنوب سبب لهلاك الأمم والشعوب، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (40)} [العنكبوت].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (96)} [الأعراف].
روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَريَةٍ فَقَد أَحَلُّوا بِأَنفُسِهِم عَذَابَ اللَّهِ» (¬8).
الوقفة الرابعة: أن على الدول الإسلامية أن تأخذ الدروس والعبر مما حصل لهذه الدول الكافرة، وأن تمنع الربا بشتى صوره وأشكاله عن البنوك والمؤسسات ومحلات التجارة وغيرها، وأن تشجع على إقامة المصارف الإسلامية فهي الحل الشرعي لكثير من المشاكل الاقتصادية ولذلك الآن في الغرب ينادون بتطبيق الأنظمة الإسلامية في البنوك لعلها أن تنقذهم مما هم فيه. يقول أحد عقلائهم وهو رئيس تحرير مجلة في الغرب: «أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة المالية إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حلت بنا الكوارث والأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري».
الوقفة الخامسة: أن الأيام دول، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ» (¬9) قال أبو البقاء الرندي:
لكلِ شيءٍ إذَا مَا تَمَّ نُقْصانُ
فَلا يُغَرُّ بطيب العَيْشِ إِنسانُ
هِيَ الأمُورُ كما شاهَدْتُها دُولُ
من سَرَّهُ زمنٌ ساءَتْهُ أزْمَانُ
الوقفة السادسة: إن هؤلاء الكفار كانوا يتبجحون بقوة اقتصادهم وحرية التصرف لكل فرد منهم فأتاهم اللَّه من حيث لم يحتسبوا، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد (197)} [آل عمران]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب والملذات، وأنواع العز والغلية في بعض الأوقات فإن هذا كله متاع قليل ليس له ثبوت ولا بقاء بل يتمتعون به قليلاً ويعذبون عليه طويلاً وهذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه (¬10). اهـ.
الوقفة السابعة: أن على المؤمن أن يكون على يقين تام وعقيدة راسخة أن اللَّه يمحق الربا، وينصر دعوة المظلومين، وأن اللَّه ينصر دينه ويذل الكفر وأهله كما أخبر بذلك، سواء رأينا ذلك في حياتنا أم لم نره فقد يتأخر لحكمة إلاهية.
لأن البعض من الناس يشكك ويقول: عشرات السنين وهؤلاء الكفار يرابون ولم نر إلا مزيداً من القوة الاقتصادية، وعشرات السنين وهم يذبحون المسلمين بل ويتفننون في تعذيبهم ولم ينتقم اللَّه منهم، فأين دعوات المظلومين؟! فالجواب عن ذلك في قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب (38)} [الرعد]. وكما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: «وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (¬11) وكما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابه عندما شكوا إليه ما يجدون من تعذيب المشركين: «وَلَكِنَّكُم قَومٌ تَستَعجِلُونَ» (¬12).
ونحن نرى العقوبات بأعيننا وقد تتبعها البشائر إن شاء اللَّه ويشفي اللَّه صدور قوم مؤمنين، واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) ص 651 برقم 1598.
(¬2) جزء من حديث ص 1347 برقم 7047.
(¬3) كأن يبتلي هذا المرابي بمرض فيستهلك من العلاج ما كسبه من أموال الربا أو يُسرق ماله أو يُصاب بحادث أو غير ذلك.
(¬4) (2/ 339) برقم 2309 وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في الفتح (4/ 315).
(¬5) فتاوى ابن باز (19/ 221).
(¬6) ص1040 برقم 2083، وصحيح البخاري ص 897 برقم 4686.
(¬7) قطعة من حديث (13/ 410) برقم 8043 وقال محققو المسند: حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(¬8) مستدرك الحاكم (2/ 339)، برقم 2308 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 178) برقم 679.
(¬9) ص 553 برقم 2872.
(¬10) تفسير ابن سعدي ص 144.
(¬11) سبق تخريجه.
(¬12) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ص 1325 برقم 6943.