[عودة] الكلمة الرابعة والثمانون: قصة قارون

الكلمة الرابعة والثمانون: قصة قارون
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فلقد قص اللَّه علينا قصص الأمم الماضية لنأخذ منها الدروس والعبر، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين (3)} [يوسف].
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِين (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُون (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِين (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُون (82) تِلْكَ الدَّارُ
الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين (83)} [القصص].
يخبر تعالى عن حال قارون وما فعل وما فُعل به وأنه كان من بني إسرائيل الذين فُضِّلوا على العالمين ولكنه بغى على قومه وطغى بما أُوتيه من الأموال العظيمة المطغية، وأعطاه اللَّه من كنوز الأموال شيئاً كثيراً ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة والعصبة من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ونحو ذلك أي حتى إن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها أي هذه المفاتيح فما ظنك بالخزائن؟ وقال له قومه: لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة وتفتخر بها، فإن اللَّه لا يحب الفرحين بها، {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فلا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعاً، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك وأحسن إلى عباد اللَّه {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} بالتكبر والعمل بمعاصي اللَّه ورد قارون على قومه قائلاً: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب «وخرج ذات يوم على قومه بأحسن هيئة» جمعت زينة الدنيا وبهجتها وغضارتها {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الذين عرفوا حقائق الأشياء ونظروا إلى باطن الدنيا {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ} العاجل من لذة العبادة ومحبته والإنابة والإقبال عليه والآجل من الجنة وما فيها خير مما تمنيتم ورغبتم فيه ولا يوفق لذلك إلا الصابرون.
فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر وازينت الدنيا عنده بغته العذاب فخسف اللَّه به وبداره الأرض، فما كان له من جماعة أو عصبة أو جنود ينصرونه فما نصر ولا انتصر، ثم عرف الذين تمنوا مكانه بالأمس من الذين يريدون الحياة الدنيا أن اللَّه يضيق الرزق على من يشاء ويبسطه لمن يشاء، وعلموا أن بسطه لقارون ليس دليلاً على محبته وأن اللَّه مَنَّ عليهم فلم يعاقبهم على قولهم وإلا أصبح حالهم الهلاك كقارون لعنه اللَّه.
ولما ذكر اللَّه تعالى حال قارون وما صارت إليه عاقبة أمره رغّب في الدار الآخرة، وأخبر أنها دار الذين لا يريدون علوًّا أي رفعة وتكبراً على عباد اللَّه ولا فساداً وهذا شامل لجميع المعاصي، وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة الحميدة كما قال تعالى: {وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين (35)} [الزخرف] (¬1).
ومن فوائد الآيات الكريمات:
أولاً: إن المال يكون وبالاً وحسرة على صاحبه إذا لم يستخدمه في طاعة اللَّه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون (36)} [الأنفال]. وقال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة].
ثانياً: إن كثرة المال ليست دليلاً على محبة اللَّه ورضاه عن العبد، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيتَ اللَّهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنهُ استِدرَاجٌ» ثم تلا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام] (¬2).
ثالثاً: أن المعاصي قد تعجل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة فقارون عاجله اللَّه بالعذاب بالخسف فجعله عبرة للآخرين، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40].
رابعاً: إن اللَّه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء لحكمة بالغة منه، قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت: 62].
خامساً: إن هذا المال عرض زائل ومتاع مفارق، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (20)} [الحديد].
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (¬3).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن سعدي ص 594 - 595.
(¬2) مسند الإمام أحمد (28/ 547) برقم 17311 وقال محققوه: حديث حسن.
(¬3) ص 1248 برقم 6514، وصحيح مسلم ص 1188 برقم 2960.