[عودة] الكلمة الحادية والثمانون: تأملات في قوله تعالى

الكلمة الحادية والثمانون: تأملات في قوله تعالى:
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (95)} رقم (2)
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده، وبعد:
قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (95)} [الحجر]. وقد تقدم الكلام على هذه الآية في كلمة سابقة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: استقبل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البيت فدعا على ستة نفر من قريش، فيهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، فأقسم باللَّه لقد رأيتهم صرعى على بدر قد غيرتهم الشمس وكان يوماً حاراً (¬1). ولنأخذ قصة مقتل اثنين من هؤلاء الكفرة الذين كانا يستهزئان به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودعا عليهما وهما: أبو جهل رأس الكفر وفرعون هذه الأمة، وأمية بن خلف الذي عذب بلالاً رضي اللهُ عنه، وكيف انتقم اللَّه لنبيه منهما؟
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ»، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ (¬2).
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم بدر: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟» فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ (¬3).
وقال أيضاً لابن مسعود: فلو غير أكار (¬4) قتلني (¬5).
وفي رواية أخرى للبخاري: وهل أعمد (¬6) من رجل قتلتموه (¬7)؟
وقال أيضاً لابن مسعود: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم، وسأل قائلاً: لمن الدائرة اليوم؟ قال ابن مسعود: للَّه ولرسوله.
أما أمية بن خلف فقد روى البخاري في صحيحه قصة قتله من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ (¬8) حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ (¬9).
وفي رواية لابن إسحاق وهي تتمه لهذه القصة: قال أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل قال عبد الرحمن: فواللَّه إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء (¬10) مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال: أحد أحد قال: فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، قال: قلت: أي بلال أَبِأَسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا قال: ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار اللَّه رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا قال: فأحاطوا بنا، حتى جعلونا في مثل المسكة (¬11) أي جعلونا في حلقة كالسوار وأنا أذب عنه قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط قال: فقلت: انج بنفسك ولا نجاء بك، فو اللَّه ما أغني عنك شيئاً قال: فهبروهما (¬12) بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم اللَّه بلالاً ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري (¬13).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) ص 746 برقم 1794، وصحيح البخاري ص 119 برقم 520.
(¬2) ص 601 برقم 3141، وصحيح مسلم ص 727 برقم 1752.
(¬3) ص 753 برقم 3962، وصحيح مسلم ص 727 برقم 1752.
(¬4) الأكار الزراع وعني بذلك أن الأنصار أصحاب زرع فأشار إلى تنقيص من قتله منهم بذلك.
(¬5) ص 762 برقم 4020.
(¬6) أعمد يريد أكبر من رجل قتلتموه على سبيل التحقير منه لفعلهم به. قال الحافظ أبو ذر الخشني: وعميد القوم سيدهم شرح السنة النبوية ص 160.
(¬7) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 227).
(¬8) أحرزت الشيء إذا حفظته وضممته إليك.
(¬9) ص 43 برقم 2301.
(¬10) الرمضاء: الرمل الحار من الشمس.
(¬11) المسكة: السواد من الذيل، الذيل جلدة السلحفاة البرية.
(¬12) فهبروهما: معناه: قطعوا لحمهما يقال: هبرت اللحم إذا قطعته قطعاً كباراً.
(¬13) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 223).