[عودة] الكلمة السبعون: المسارعة إلى الخيرات

الكلمة السبعون: المسارعة إلى الخيرات
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإنه ينبغي للمؤمن أن يسارع في الخيرات فالعمر قصير والأجل قريب، وابن آدم لا يدري متى يأتيه الموت وأعني بالمسارعة إلى الخيرات أي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها والاستعجال في أدائها وعدم تأخيرها، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين (114)} [آل عمران]. وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران].
وقال تعالى عن نبي اللَّه موسى عليه السَّلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه]. وقال تعالى عن نبي اللَّه زكريا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (90)} [الأنبياء]. وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحث أمته على المسارعة إلى الأعمال الصالحة فإن المؤمن لا يدري ما يعرض له من مرض، أو فتنة، أو أجل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (¬1).
وروى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرجل من أصحابه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» (¬2).
وروى أبو داود في سننه من حديث مصعب بن سعد عن أبيه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» (¬3). وقد كان الصحابة رضي اللهُ عنهم يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم فيتسابقون إلى الأعمال الصالحة ويتنافسون في أعمال الآخرة كما أرشد إلى ذلك ربنا سبحانه وتعالى فقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون (26)} [المطففين].
روى أبو داود في سننه من حديث عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ، إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رضي اللهُ عنه بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا (¬4).
قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: إن للقلوب شهوة وإدباراً فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها، قال الإمام أحمد بن حنبل: كل شيء من الخير يبادر به.
وقال الشاعر:
إذَاَ هَبَّت رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا
فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سكونُ
ولا تَغْفَلْ عَنِ الإحْسَانِ فِيها
فَما تَدْرِي السكونُ مَتَى يكونُ
وإن دَرَّت (¬5) نِيَاقُكَ فَاحْتَلِبْهَا
فَمَا تَدْرِي الفصيلُ (¬6) لمن يكونُ
ومن فوائد المسارعة إلى الخيرات:
أولاً: الفوز بجنات النعيم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون (11)} [الواقعة]. والسابقون هم المبادرون إلى فعل الخيرات في الدنيا، وهم في الآخرة سبقوا إلى الجنات فإن السبق هناك على قدر السبق في الدنيا، والجزاء من حسن العمل، قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان (60)} [الرحمن]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير (32)} [فاطر].
قال ابن كثير: «ومنهم سابق بالخيرات هو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات»، وقال ابن عباس: «السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة اللَّه، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد عليه الصلاة والسلام» (¬7).
ثانياً: المسارعة بقضاء الفرائض والواجبات فيه إبراء للذمة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الفضل بن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ وَيَمْرَضُ الْمَرِيضُ وَتَكُونُ الْحَاجَةُ» (¬8).
ثالثاً: المبادرة بالأعمال الصالحة في أول أوقاتها أفضل من تأخيرها إلا لمن استثناه الدليل. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سئل: أي العمل أفضل؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» (¬9).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» (¬10).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ» (¬11).
رابعاً: أن المبادرة إلى الأعمال الصالحة فيها استجابة لأمر اللَّه ورسوله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ». قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟!» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَاكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ (¬12).
وأختم هذه الكلمة بما ذكره اللَّه في كتابه عن فضل أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذين أسلموا قبل الفتح على الذين أسلموا بعد قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) ص 72 برقم 118.
(¬2) (4/ 341) برقم 7844 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 244) برقم 1077.
(¬3) ص 524 برقم (4810)، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 578) برقم 3009.
(¬4) ص 197 برقم 1678، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 315) برقم 1472.
(¬5) در الضرع: امتلأ لبناً.
(¬6) الفصيل: ولد الناقة، المعجم الوسيط (279 - 691).
(¬7) تفسير ابن كثير (11/ 322 - 323).
(¬8) (3/ 332) برقم 1833، وقال محققوه: حديث حسن.
(¬9) ص 121 برقم 527، وصحيح مسلم ص 62 برقم 85.
(¬10) ص 134 برقم 615، وصحيح مسلم ص 186 برقم 437.
(¬11) ص 186 برقم 438.
(¬12) ص 789 برقم (1901).