[عودة] الكلمة الخامسة والخمسون: الإعراض عن الدين

الكلمة الخامسة والخمسون: الإعراض عن الدين
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57].
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية: لا أظلم أي لا أحد أكثر ظلماً لنفسه ممن ذكر أي: وعظ بآيات ربه وهي هذا القرآن العظيم فاعرض عنها أي: تولى وصد عنها ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والكفر؛ فالإعراض عن التذكرة بآيات اللَّه من أعظم الظلم، وله نتائج سيئة، وعواقب وخيمة.
فمن ذلك الأكنة على القلوب حتى لا تفقهه الحق وعدم الاهتداء أبداً كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} [الكهف].
ومنها انتقام اللَّه عزَّ وجلَّ من المعرض عن التذكرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة].
ومنها كون المُعْرِض كالحمار كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَة (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة (51)} [المدثر]. أي: كأنهم الحمر الوحشية التي تفر من أسد يريد صيدها.
ومنها الأنذار عن الصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود (13)} [فصلت].
ومنها المعيشة الضنك والعمى، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه].
ومنها إدخاله العذاب الشديد، قال تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن].
ومنها تقييض القرناء من الشياطين، قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين (36)} [الزخرف].
إلى غير من النتائج السيئة والعواقب الوخيمة الناشئة للإعراض عن التذكير بآيات اللَّه (¬1). اهـ.
وهذا الإعراض الذي ذمه اللَّه هو إعراض الكفار والمنافقين عن سماع القرآن والسنة.
وذكر أهل العلم أن من نواقص الإسلام العشرة التي تخرج العبد من دائرة الإسلام: الإعراض عن دين اللَّه لا يتعلمه ولا يعمل به، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة]. والمراد بالإعراض هو الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما الكفر فخمسة أنواع فذكرها ثم قال: وأما كفر الإعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة (¬2). اهـ.
وأما الأقسام الأخرى التي سأذكرها فإنها لا تصل إلى درجة الكفر ولكنه يخشى على صاحبها العقوبة والمشابهة للكفار والمنافقين في الإعراض عن سماع الذكر.
القسم الأول: إعراض بعض الناس عن سماع الكلمات أو المحاضرات أو الخطب أو غيرها بزعم أنه لا تقوم عليه الحجة إذا لم يسمع، وهذا وقع في أمر أعظم من الذي فر منه، وهذا جهل مركب فالإعراض أخطر من الاستماع والتساهل في العمل، روى البخاري ومسلم من حديث أبي واقد الحارث بن عوف أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينما هو جالس في المسجد والناس معه: إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَأَوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» (¬3).
القسم الثاني: الإعراض عن الذكر بسبب الاستغناء بما عنده، وفي الحقيقة أن هذا المسكين ليس عنده شيء من العلم وهذا من الغرور، وعلماء السلف رحمهم اللَّه مع ما تلقوا من العلم الغزير إلا أن الواحد منهم كان إلى آخر لحظة من حياته يتمنى أن يسمع حديثاً يلقى اللَّه تعالى وقد علمه وعمل به.
القسم الثالث: الإعراض لعدم معرفة أهمية ما يُلقى إليه مع أن العلم الشرعي هو غذاء القلوب، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب: روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر قال: خَرَجَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوِ الْعَقِيقِ (¬4) فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (¬5) فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعَلَمَ، أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِثْلِ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ» (¬6).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يَرِثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (¬7).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) أضواء البيان (4/ 181 – 183)، بتصرف.
(¬2) مدارج السالكين (1/ 366 – 367).
(¬3) ص 38 برقم 64، وصحيح مسلم ص 897 برقم 2176.
(¬4) بطحان والعقيق: واديان قرب المدينة.
(¬5) ناقةٌ كوماء: أي عظيمة السنام، وهي من أفضلِ أموال العرب.
(¬6) ص 314 برقم 803.
(¬7) (36/ 46) برقم 21714، وقال محققوه: حسن لغيره.