[عودة] الكلمة السادسة والأربعون: دروس وعبر من قوله تعالى

الكلمة السادسة والأربعون: دروس وعبر من قوله تعالى:
{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد (196)} [آل عمران]
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبُّره والعمل به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص]. وعملاً بالآية الكريمة: لنستمع إلى آية من كتاب اللَّه، ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار (198)} [آل عمران].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وهذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها، وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب والملذات، وأنواع العز والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع قليل ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتَّعون به قليلاً، ويُعَذَّبُون عليه طويلاً، وهذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه، أما المتقون لربهم المؤمنون به: فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فلو قُدِّر أنهم في دار الدنيا قد حصل لهم كل بؤس وشقاء، لكان هذا - بالنسبة إلى النعيم المقيم والعيش السليم -: نزرًا يسيرًا ومنحة في صورة محنة، ولهذا قال: {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار (198)}: الذين برت أقوالهم وأفعالهم فأثابهم البر الرحيم من بره أجراً عظيماً وعطاءً جسيماً وفوزاً دائماً. اهـ (¬1).
ومن فوائد الآيات الكريمات:
أولاً: ألاَّ يغترَّ المؤمن بحال هؤلاء الكفار وما هم فيه من النعمة والغبطة والسرور، فهو متاع زائل يعقبه عذاب أبدي سرمدي، قال تعالى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِين (61)} [القصص]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون (70)} [يونس].
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ! هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللَّهِ! يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ! هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ! يَا رَبِّ! مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» (¬2).
ثانيًا: أن كثرة النعم والخيرات التي يعطيها اللَّه لعبده، ليست دليلاً على محبته، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ»؛ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام] (¬3).
ثالثًا: أن إمهال اللَّه لهؤلاء الكفار وتتابع النعم والخيرات لهم، إنما هو زيادة لهم في عذاب الآخرة، قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين (178)} [آل عمران]. وقال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة].
رابعًا: أن ما يعطيه اللَّه للكفار من نعم الدنيا، إنما ذلك لهوان الدنيا عنده وحقارتها، وابتلاء لهم وفتنة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُون (20)} [الأحقاف].
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬4).
وفي الصحيحين أن عمر رضي اللهُ عنه صعد إلى مشربة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا آلى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من نسائه، فرآه متكئًا على رَمْل حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ بجَنْبِهِ، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول اللَّه هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة اللَّه من خلقه؟! وكان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متكئًا فجلس، وقال: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟!» ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» وفي رواية: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟!» (¬5).
خامسًا: الترغيب في الآخرة والزهد في الدنيا؛ قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه]. وقال تعالى: {وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين (35)} [الزخرف].
سادسًا: بيان حقارة الدنيا وهوانها على اللَّه؛ روى الترمذي في سننه من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (¬6).
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مر بالسوق والناس عن جانبيه، فمر بجدي أسك - أي صغير الأذن - فقال: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟! فَقَالَ: «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» (¬7).
وروى مسلم في صحيحه من حديث مُسْتَوْرِدٍ أَخَي بَنِي فِهْرٍ رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟!» (¬8).
قال أبو العتاهية وهو يصف الدنيا:
إَذَا أَبْقَتِ الدُنْيَا عَلَى المرءِ دِينَهُ
فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
إِذَا كُنْتَ بالدُّنْيَا بَصِيراً فإِنَّمَا
بلاغُك مِنْهَا مِثْلُ زَادِ المُسَافِرِ
وإِنَّ امرَءاً يَبْتَاعُ دُنْيَا بدِينِهِ
لَمُنْقَلِبٌ مِنْهَا بِصَفْقَةِ خَاسِرِ
أَلَمْ تَرَهَا تُرْقِيِه حَتَّى إِذَا سَمَا
فَرَت حَلْقَهُ مِنهَا بُمدية (¬9) جازِرِ
ولاَ تَعْدِلُ الدَّنِيا جنَاحَ بَعُوضَةٍ
لَدَى اللَّهِ أو مِعْشَارَ زَغْبَة (¬10) طَائِرِ
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن سعدي ص 144.
(¬2) ص 1129 برقم 2807.
(¬3) (28/ 547) برقم 17311، وقال محققوه: حديث حسن.
(¬4) ص 1129 برقم 2808.
(¬5) جزء من حديث ص 968 برقم 4913، وصحيح مسلم ص 595 برقم 1479.
(¬6) ص 383 برقم 2320، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 269) برقم 1889.
(¬7) ص 1187 برقم 2956.
(¬8) ص 1146 برقم 2858.
(¬9) المُدْية: السكين.
(¬10) زغبة طائر: الزغب صغار الريش، الواحدة زغبة، المعجم الوسيط ص394.