[عودة] الكلمة الأربعون: تفسير سورة الضحى
الكلمة الأربعون: تفسير سورة الضحى
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبُّره والعمل به، فقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص].
ومن سور القرآن العظيم التي تتكرَّر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمُّل وتدبُّر: سورة الضحى.
روى البخاري ومسلم من حديث جندب رضي اللهُ عنه قال: اشْتَكَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أو ثلاثًا، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي لأرجُو أن يكونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لم أرَهُ قربَكَ منذُ ليلتَينِ أو ثلاثةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى].
وجاء في بعض الروايات: أنها أم جميل زوجة أبي لهب.
قوله تعالى {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ}: هذا قسم منه تعالى بزمن الضحى وما جعل فيه من الضياء والنور، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} أي: سكن فأظلم وادلهم وهذا دليل على قدرة خالق هذا، وهذا كما قال سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل]. وقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم (96)} [الأنعام].
قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أي: ما تركك، {وَمَا قَلَى (3)}: أي وما أبغضك، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4)} أي: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها اطراحًا كما هو معلوم من سيرته، ولما خيِّر عليه السَّلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين لقاء ربه عزَّ وجلَّ، اختار ما عند اللَّه على هذه الدنيا الفانية.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مويهبة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عزَّ وجلَّ وَالْجَنَّةِ»، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ! قَالَ: «لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ» ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ (¬1).
قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}، أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته وفيما أعدَّه له من الكرامة، ومن جملته: نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه مسك أذفر.
روى ابن جرير في تفسيره من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: عُرِض على رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما هو مفتوح على أمَّته من بعده كنزًا كنزًا، فسُرَّ بذلك، فأنزل اللَّه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}؛ فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم (¬2). قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف (¬3)؛ ثم قال تعالى - يعدد نعمته على عبده ورسوله محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)}: وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل: بعد أن ولد عليه السَّلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين. ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه، بعد أن بعثه اللَّه على رأس أربعين سنة من عمره هذا، وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدره وحسن تدبيره، إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل؛ فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار اللَّه له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى اللَّه سنته على الوجه الأتم الأكمل، فلما وصل إليهم آوَوه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه، وكل هذا من حفظ اللَّه له، وكلاءته وعنايته به (¬4).
قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7)}، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (52)} [الشورى].
قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)}، أي: كنت فقيرًا ذا عيال فأغناك اللَّه عمن سواه، فجمع له بين مقامَي الفقير الصابر والغني الشاكر - صلوات اللَّه وسلامه عليه -.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (¬5)؛ وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثرَةِ الْعَرَضِ، إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (¬6).
قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَر (9)}، أي: كما كنت يتيمًا فآواك اللَّه، فلا تقهر اليتيم: أي لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به.
قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَر (10)}، أي: كما كنت ضالًّا فهداك اللَّه، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث (11)}، أي: كما كنت عائلًا فقيرًا فأغناك اللَّه فحدث بنعمة اللَّه عليك.
روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَشكُرُ اللَّهَ، مَن لَا يَشكُرُ النَّاسَ» (¬7)؛ وروى أبو داود في سننه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أُبْلِيَ بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» (¬8).
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) (25/ 376) برقم 15997؛ وقال محققوه: إسناده ضعيف، لكن الحديث صحيح في استغفاره لأهل البقيع واختياره لقاء ربه.
(¬2) (12/ 624) برقم 37513.
(¬3) تفسير ابن كثير (14/ 383).
(¬4) تفسير ابن كثير (14/ 384).
(¬5) ص 404 برقم 1054.
(¬6) ص 1238 برقم 6446، وصحيح مسلم ص 403 برقم 1051.
(¬7) ص 524 برقم 4811، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 913) برقم 4026.
(¬8) ص 524 برقم 4814، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 914) برقم 4029.